من ظواهر السياسة الصومالية في العقود الأخيرةالمشاكسة والمصارعة حول كل شيء متصل بالسلطتين التنفيذية والتشريعية بغية الدفاع عن النفس أولا، وتحقيق مكاسب سياسية ثانيا، وتوسيع النفوذ على حساب النائمين والكسولين ثاليا ، وكسب أرباح مالية ضخمة باستخدام طرق شتي رابعا، وتأمين العودة في الانتخابات القادمة سواءا كانت على صعيد البرلمان، أو السلطة التنفيذية خامسا، حروب مشتعلة في كل الجبهات لتأمين المكاسب سالفة الذكر.
ولم أبتعد عن الحقيقةإن قلت إن عقلية السياسي الصومالي لم تجد البيئة السياسية الملائمة لتنمية قدراته ومواهبه في بناء نظام سياسي تعددي ديمقراطي يمثل الجميع ويستوعبهم،ويفتح آفاق جديدة وتجربة متجددة في دنيا الحكم والسياسية بعيدا عن تكريس الأنظمة الشمولية، والقبلية في بلد لا يزال يتمسك على النظام القبلي.
ولاغرو إن قلت إن السياسي الصومالي مقيد بسلاسل من القيود والتي تعيق محاولاته عبثا باحداث تغيير جذري في الثقافة السياسية الصومالية المسجونة بين الجدر الثلاثة: الأمية السياسية، والنظام العشائري، وغياب دستور دائم يرشد هؤلاء الحيارى نحو الاستقرار السياسي، والتعايش السلمي.
وأهم سبب يعرقل ذلك هو أن أبو القوم لم يكن صالحا في السياسية منذ 1960محيث فشل في إعداد أجيال قادرة على تغيير أحوالهم السياسية، وبالتالي يتأقلمون على نمط واحد من الحياة الاجتماعية، والسياسية.
وإذا كان الأمر كذلك فلا تستغرب بروز خلافات سياسية بين أقطاب الحكم في الصومال، مع إنعدام آلية شرعية تفصل الخصومات السياسية، مثل المحكمة الدستورية، والدستور الدائم، وجهات صومالية أخرى تقوم بإحتواء الأزمات في بداياتها الأولي.
وأغلب المنخرطين في مؤسسات الدولة الصومالية يجمعهم عدم إستفادة الدروس الماضية، وخلق فرص مجانية للقوى الخارجية التي تشارك بعد ذلك في وضع بصماتها في الحكم وذلك عن طريق وضع الدستور الإنتقالي المتناقض والمنقوص سابقا، وإشعال حروب صفرية مدمرة للنظام السياسي محلية الصنع في البداية، وتبادل الأدوار في الإنتقام السياسي بين الأطراف السياسية الصومالية منذ 1960م.
جذور الأزمة الراهنة
ومهما تورط أحد طرفي الأزمة في خلق الأزمة السياسية الحالية لأسباب سياسية بالدرجة الأولى إلا أن المعلومات المشاعة والمتاحة حتى الآن في المشهد المكهرب تشير إلى ظهور مشروع سحب الثقة من دولة رئيس الوزراء إلى السطح أولا، حيث وصلت توقيعات بعض أعضاء البرلمان إلى مكتب رئيس مجلس الشعب، وكان ذلك قبل قبل إجازة البرلمان الأخيرة.
وعندما علمت السلطة التنفيذية تحركات سياسية ضدها داخل السلطة التشيريعية، طلبت من رئيس البرلمان إبعاد الوطن من شبح التوترات السياسية، وعدم وصول مشروع المعارضة إلى تحت قبة البرلمان، بيد أن رئيس البرلمان رفض ذلك لسبب واحد وهو عدم قدرته عرقلة التحركات الرامية إلى إسقاط الحكومة دستوريا لأن ذلك يعد حقا دستوريا مكفولا لأعضاء البرلمان.
فكان رد الحكومة إتخاذ خطوات في جادة وهيفيغاية الأهمية بالنسبة لها بغرض إستعراض قوتها السياسية، والأمنية فداهمت بصورة مفاجأة على مقر السياسي الصومالي البارز عبدالرحمن عبدالشكور لكونه كان زعيم المعارضة في 18- 12-2017م فكانت النتيجة المعروفة، وضربة إستباقية بيد أن الطرف الآخر وصف خطوة الحكومة بأنها غير دستورية.
ثم أعقبه تعديل وزاري محدود في الحكومة في 4 يناير 2018م بغية إضعاف المعارضة، وبعثرة أوراقها علما بأن الوزراء الثلاثة وهم: الخارجية، والداخلية، والتجارة لهم أوزانهمالثقيلة في ميزان السياسة الصومالية، فالأول إحتوى التداعيات الناجمة عن وزير الداخلية السابق، والثاني أزاح جدارا سياسيا قويا عن طريق الحكومة وهو السيد عبدالرحمن عبدالشكور، والثالث شكل ضربة قوية لكتلة قبيو داخل البرلمان وفق تحليلي الشخصي.
ولإستيعاب بقية الكتلة الأخيرة فقد عقد السيد فهد ياسين مدير مكتب الرئاسة الجمهورية لقاءات مع السيد عبدالكريم حسين غوليد في تركيا حيث ناقش الجانبان الأزمة السياسية الراهنة إلا أن تباين الأفكار والحلول المطرحة كانت سيدة الموقف.
فبينما رحبت السلطة التنفيذية إستيعاب كتلة قبيو في الحكومة بإعطائها مناصب وزراية سيادية، رفض السيد غوليد أحد زعماء المعارضة السياسية هذا المقترح جملة وتفصيلا، حيث تمسك برحيل رئيس الوزراء ثم تشكيل حكومة جديدة بقيادة المعارضة السياسية، وهو ما يعطي فرصة للمعارضة في تحديد المعالم السياسية المتصلة بـ 2020م
ويرى البعض أن مرحلة كسر العظام بين الجانبين بدأت إثر تعثر المفاوضات بين الحكومة والمعارضة في تركيا، حيث بدأت إتصالات مباشرة وغير مباشرة بين رئيس البرلمان البرفسور محمد شيخ عثمان جواري وبين زعماء المعارضة لوضع خطة سياسية جديدة تهدف إلى سحب البساط من تحت إقدام رئيس الوزراء.
وتشير آخر الأحداث السياسية المتصلة بأزمة البرلمان إنضمام النائب الثاني لرئيس البرلمان السيد مهد عبدالله عوض إلى الجهود الصومالية الرامية إلى إستقالة رئيس البرلمان، وإن صحت هذه الرواية فقد جاأت في وقت حرج للغاية بالنسبة للبرفسور جواري الذي يبدوا أنه بعض أوراقه المؤثرة، وقد يصمد الرجل لوجود شخصيات سياسية مؤثرة، فضلا عن إمكانية ضم أعضاء برلمان جدد إلى صفوفه باستخدام مغريات مالية، أو سياسية، ونفس الوسائل تستخدمها السلطة التنفيذية.
صمود البرفسور جواري
مرّ على تاريخ إعلان مشروع سحب الثقة من رئيس البرلمان 25 يوما إلا أن الرجل لم يسقط بعد بل لا يزال صامدا برغم العواصف السياسية العاتية التي هبت عليه وذلك للأسباب التالية:-
- وقوف سياسيين بارزين مع السيد رئيس البرلمان السيد جواري حيث دافعت عنه داخل البرلمان، وخارجه، ومن أبرزهم أعضاء البرلمان الآتية أسمائهم وهم: السيد فارح الشيخ عبدالقادر، والسيد عبدالقادر عسبلي، والسيد حسن عبدي إسماعيل،والسيد أحمد فقهي، والنائب الثاني لرئيس البرلمان السيد مهد عبدالله عوض، والسيد مهد صلاد، وآخرون علما بأن كل واحد من هؤلاء يمثل ركنا أساسيا داخل البرلمان، وله تأثيره وأنصاره أيضا.
- إستخدام السيد جواري خبرته الدستورية والسياسية، ونشر أفكاره السياسية عبر وسائل الإعلام المرئية المختلفة،مدافعا عن نفسه، ومهاجما أيضا على السلطة التنفيذية التي تحاول حسب رأي السيد جواري إسقاط المؤسسة التشريعية، وكان لافتا سيل المؤتمرات الصحفية التي يعقدها السيد جواري تباعا، فضلا عن إصداره بيانات صحفية.
- إنحياز بعض الأقاليم الفدرالية الصومالية إلى جانب السيد جواري بداعي الخوف حيث أن إسقاط رئيس البرلمان على الطريقة الحالية قد تنتقل عدواها إلى بعض رؤساء الولايات الفدرالية، وبالتالي فإن صمود جواري وعدم إسقاطه ستعرقل أي محاولة من السلطة التنفيذية نحو الولايات الفدرالية وفق رأي بعض رؤساء الإدارات الإقليمية الفدرالية.
- الخوف من إندلاع قتال بين أنصار رئيس البرلمان، ورئيس الوزراء في شوارع مقديشو العاصمة، في حال إسقاط جواري عن طريق رفع الأيدي وهو ما يتناقض مع اللوائح الداخلية للبرلمان، وتفاديا لهذا تدخل الرئيس محمد عبدالله فرماجو حيث تم تأجيل جلسة البرلمان المقررة عقدها في الأربعاء الماضي.
- دعوات ونداءات صدرت من المجتمع الدولي ( الإتحاد الإفريقي، وهيئة الإيغاد، والأمم المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا ) وغيرهم والتي تدعوا إلى تهدئة الأزمة، ونزع قتيلها، وحل الأزمة عن طريق وسيلتين، إما أن يقدم رئيس البرلمان الإستقالة، أو يجرى الإقتراع السري في مكان محايد وهادئ لإنهاء الجدل السياسي الدائر داخل البرلمان.
السيناريوهات المستقبليّة
أزمة البرلمان وصلت إلى أعلى مستوى لها،كما استخدم الطرفان كل الأوراق المتاحة والمتوفرة لديهما إلا أن الأزمة لا تزال تراوح مكانها، علما بأنه من المتوقع أن يستأنف مجلس البرلمان جلساته يوم غد الإثنين وفق رسالة نصيّة أرسلها النائب الأول لرئيس البرلمان السيد عبدولي إبراهيم شيخ مودي اليوم الإثنين إلى أعضاء البرلمان حيث يخطرهم بعقد جلسة البرلمان يوم غد الإثنين الموافق 9-4-2018م، وأجندته مناقشة مشروع سحب الثقة من رئيس البرلمان السيد محمد شيخ عثمان جواري.
ووفق المعطيات السياسية الراهنة فإن الطرق الثلاثة التالية هي التي ستحدد مصير رئيس البرلمان الصومالي وهي:-
- إستقالة رئيس البرلمان عن منصبه بغية الحافظ على مكتسبات الدولة الصومالية، والمضي قدما في تحقيق إستقرار سياسي يساهم في بلورة رؤية سياسية جديدة، مع إستيعاب أنصار السيد جواري في الحكومة، أو إعطائها مشاريع إستثمارية إذا سمح قانون الإستثمار الصومالي ذلك.
- اللجوء إلى صندوق الإقتراع السري تحت قبة البرلمان، أو مكان محايد آخر وفق رأي السيد جواري وأنصاره، والإنصياع إلى نتيجة التصويت، ثم ردم الهوة السياسية التي إنفلقت بين المؤستين التشريعية والتنفيذية سريعا.
- المصالحة السياسية بين الطرفين حيث يتم تعليق مشاريع سحب الثقة عن رئيس البرلمان، وعن رئيس الوزراء، ورئيس الجمهورية الفدرالية الصومالية إلى عام 2020م، وتوحيد جهود مؤسسات الدولة الصومالية في تحقيق الاستقرار والسلام في الصومال.
ومهما يكن من أمر فإن إطفاء الحرائق السياسية في المشهد الصومالي ضرورة وطنية، وأن إستمرار الأزمة الراهنة ليست لمصلحة الوطن، وبالتالي فإن على الجميع المشاركة في إحتوائها، فهل تتمكن القيادة الصومالية العثور على مفتاح الأزمة الراهنة؟ أم ستغرق في بحور التناقضات والتجاذبات العبثية؟