حين تضطرب الأمواج، وتموج الأحزان كموج البحر، حين تعصف رياح البلبلة الفكرية، وتدوخ الرويبضة أسماعنا، ونتساءل القول الفصل في لغز حيرنا، حين أشعر بالخواء، أو انخفاض نبضات الإيمان في قلبي، حين أشعر بشيء من هذا، كنت أجلس أمامه مصغيا، أطلب منه تحفة إيمانية دفاقة، فيفتح صناديق طرفه وملحه، يأخذنا إلى عالم التاريخ، يغوص فيها يستخرج اللآلئ والدرر، يجعلك تعيش مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، يجعلك تسمع منه مباشرة فك الطلاسم التي استعصت عليك.
بحَّار ماهر في التاريخ، ثاقب البصيرة حاضر البديهة، تظنه عاش بين الصحابة برزانته، تفاعل معهم في أيام مكة مع رمضاءها، في الهجرة ومطارداتها، في المدينة ومكر اليهود، يعمل مع الحبيب في إفشالها، لم يكن يقرأها، بل ينغمس فيها بكل كيانه كأنه جزء من الحدث، حتي تتخيل أنت أيضا أنك صرت في وسط الحدث وهو يحدث أمامك اللحظة وتؤدي أنت أحد أدواره، يحب الصحابة فردا فردا، لكنه ينبسط أكثر، وربما يغير جلسته حين يتعلق الأمر بسعد بن معاذ، هكذا يقول بكل وضوح: إنني معجب بشخصه رضي الله عنه، وبمواقفه، وبإسهاماته الجليلة، منذ مبدأ إسلامه إلى لقاء ربه الرحيم.
كيف غيره الإسلام من محارب مطارد لسفير الرسول الأول مصعب بن عمير، ومهدد له بالخروج من يثرب وإلا سيتعرض ما لا يحمد عقباه، إلى داعية عظيمة يواجه قومه بكلمة التوحيد يخيِّر بينهم إما الإسلام وإما البراءة منهم ومن شركهم، إلى موقفه يوم بدر حين يكرر الحبيب قولته الشهيرة “أشيروا علي أيها القوم” فيفهم سعد بأن الأنصار هم المعنيون، فينبري كالسهم يثلج صدر الحبيب صلى لله عليه وسلم، بعبارته الخالدة “امض بنا يا رسول الله، فوالله لو خضت بنا البحر لخضناه معك…”.
عظيم في كل مواقفه، ما من موقف إلا وقد أدخل السرور في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، يبهر النبي بثباته ورباطة جأشه في أحلك الظروف هو وسعد بن عبادة حين استشارهما النبي صلى الله عليه وسلم في التوافق مع غطفاء بالانسحاب من الأحزاب مقابل قدر من تمر المدينة، وكيف رفضا الأمر بكل قوة حين استفسروا منه أن الأمر مجرد عطف لهم من وطأة الحرب وليس الأمر وحيا واجب الإنقياد. ناهيك عن موقفه من حادثة الإفك واستعداده لقطع عنق الذي تولى كبره، غير مبال بأي العشيرتين انتسب؛ إلى الأوس أم إلى الخزرج، إلى أن ختم مسيرته المباركة في موافقته لحكم الله من فوق السبع السموات على بني قريظة حين نزلوا على حكمه، ظنا منهم أنه سيعطف عليهم كما دافع عبدالله بن أبي بن سلوس بني قينقاع.
كلها مواقف جعلته الشخص الوحيد الذي اهتز له عرش الرحمن، وما كان هذا إلا في ست سنوات فقط، فيصعقنا في وسط الذهول والانبهار بسؤال مؤلم: ماذا قدمت للإسلام يا ابن العشرين يا ابن الثلاثين يا ابن الأربعين يا ابن الخمسين، وقد تفتحت عيناك، واشتد ساعدك في حظيرة الإسلام؟ّ!!.
وهكذا مع بقية الصحابة حين يأخذهم كأمثال جديرة بالتأسي والإقتداء كيف صاغهم الإسلام، وكيف تعاملوا مع الإسلام كمنهج حياة، ورسالة تغييرية لحياتهم، وحياة من حولهم، رسالة فارقة بين عهدين؛ بين عهد الضياع والجهل والجهالة والانحراف والغبش والعفن والشرك والخرافات، في مقابل حياة النور والهدى والاستقامة والجدية والعمل والعطاء، والتوحيد والانسجام مع الكون في الاتجاه إلى الخالق بجميع أنواع العبادة، وإفراده بالخلق والأمر، بالربوبية والألوهية، والاحتكام إلى المنهج الصادر عن الله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد… كيف انتشلهم الإسلام من الحمأة الجاهلية والطيش والتفرق والتشرذم والقبلية والتيه وحياة اللامعنى، إلى حياة جعلتهم قادة العالم ورواده في ربع قرن فقط تخر لهم الجبابرة، وتخضع لهم عروش كسرى وقيصر!! من الحضيض والأوحال إلى القمة السامقة؛ قيادة البشرية وهدايتها، وإخراجها من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإيمان واليقين.
يقف مع كل صحابي، يريد منك أن تحذو حذوه، لعلك تجد منه القدوة والشخصية المطابقة لشخصيتك، يطوِّفك في حدائقهم تطوافا حثيثا كاشواط السعي، ويقطف الثمرة الجنية من بستانهم، ويزودك أزهارا فواحة من حدائقهم؛ كل ذلك ليصحح البوصلة، ويضع أمامك القدوات الحقيقية، الجديرة بالتأسي، والاهتداء بهديهم لسان حاله:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ** أسدا تخلف بعدها أشبالا
ربما تتساءل سيدي القارئ من ذاك العملاق الذي أتحدث عنه، إنه المربي العظيم، والمفسر لكتاب رب العالمين؛ الشيخ عبدالحفيظ حاج يوسف عليه رحمة الله..
وللحديث بقية…