كان أكثر سؤال أو تساؤلٍ يدور في مجالس الأمة الصومالية بعد اغتيال الشيخ عبد الناصر حاج أحمد رحمة الله في عمليّةِ غدرٍ كان هو ضحيّتها المستهدفة نهار يوم الثلاثاء الموافق (22/2/2022 م) في مدينة كسمايو الساحلية كان التساؤل “لماذا اُستُهدِفَ الشيخ عبد الناصر حاج أحمد؟ ولماذا في كسمايو؟”. إنّ ذلك الغدر كان يُنبئُ عن تكوين ذهنيٍّ-فكريٍّ ونفسيٍّ-عاطفيٍّ للأشخاص الذين نفّذوا تلك الجريمة، وممّا لا شكّ فيه أنّهم سيستهدفون غيره من الشّخصياتِ البارزةِ والمحوريّة قادةِ عمليات التنميةِ والتَّغييرِ في المجتمعِ الصّوماليِّ الّذين نحن بحاجة ملحة لوجودهم ومساهمتهم في عمليّة البناءِ متعدّد الأضلاع، فمن هؤلاء الذين يستهدفون نخبة المجتمع الصومالي ؟.
هكذا السؤال أو التساؤل يجعلنا نعود إلى البنية الاجتماعيّة أو الحاضنة الاجتماعية الأولى التي ساهمت في تكوين وتَنشِئَةِ هذا الإنسانَ الّذي يُوهِمُك من الوهلة الأولى وعند سماع صوته الجهوري القوّي بأنّه صاحب مشروع نهضوي بصير، ورائداً لنهضةٍ منتظرةٍ، ومُجدداً لأمال الأمة مُتطَلِّعة إلى الوصول إلى برِّ الأمان، ومُنقذاً لها، لكنَّ خلف هذه الشعارات البرّاقة بيئة اجتماعية ترزح تحت سطوة بُنيةٍ اقتصاديةٍ-سياسيةٍ واجتماعيةٍ-ثقافيةٍ هشةٍ، جعلتها تَفقُدُ التوازنَ، فهي تترنّح بين الفقر المُدقِعِ أو الغنى الهشِّ الخادع غير المستقرِّ، وتتحكّمُ في مثل هذه البيئة أساطير وقيم وأنماط تربويةٍ عقيمةٍ تُولّدُ القهرَ السياسيَّ، القمعَ الأمنيَّ، والجهلَ المعرفيَّ، والتسلُّط الاجتماعيَّ، بمكوِّناتِهِ المختلفةِ من الأسرة إلى السلطة الحاكمة.
وتُدمِّرُ هذه التّراكُميّات السالبة قيمةَ الإنسانِ وكرامتَه، وتجعله يشعر نفسيّاً بالغربة والوحشة في حاضنته الاجتماعية ولذلك يشعرُ أيضاً أنّه في مكانٍ غيرَ مكانه وزمانٍ غيرَ زمانه، فتتضّخمُ لديه أحزان الماضي وتُطوِّقُه معاناةَ وإخفاقاتِ الحاضر، ويفقدُ الأملَ في المستقبل، فَيَنشأُ منعدماً للتوازن النفسي، وتَختَزِن في لاوعيه آلامُ تلك المآسي كلِّها معنويِّها وماديَّها، وتهدمُ فيه العزّة النفسيّة والاعتداد الشّخصيّ. ثمّ يكبرُ وهو في علاقة اجتماعيةٍ قشرتُها الخارجيّة “الرضوخ العلني والتبعية الزائفة”، وفي مضمونها الداخلي” تمردٌ متزايدٌ وعدوانيةٌ خفيةٌ مُدمِّرةٌ”.
وعلى تلك البراكين النفسيّة الخامدة أي الساكنة بأنواعها المختلفة، يترعرع الانسان ويتربّى عليها، وهو يُطوِّر ويتبنّى آليات ووسائل هجومية ودفاعية مزدوجة، فهو يصدح (يتغنّى) بخطاب استعراضيّ إصلاحيّ شموليّ تحت بنود الرقيّ والتّقدّم والعزّة والشّموخ والتّبشير بمستقبل مُشرق قائمٍ على العدلِ والمساواةِ، ويُضمِرُ في نفسه التّخريبَ والتّرهيبَ، ويَدسُّ في ضميرة الحسد والضغينة، ويَزرعُ في المجتمعِ رُوحَ اليأسِ والتّيئس والتّشتّتِ وقلّة الحيلة. وهو يعتقد بفعلته هده أنّه يبنِي ولا يهدِم ، فهو يلعب دور السيّد القائد والمرشدُ المتفرد للأمّة في أفكاره والموصل إلى أهدافها الإستراتيجيّة الكبرى، ولكنّه في حقيقة الأمر والواقع تابعٌ وخادمٌ لأفكارٍ وتجاربَ لمجتمعاتٍ وشخصياتٍ أخرى مستورةٍ قد لا تستجيب لحلّ مشاكل بيئته الخاصة، وإنّما يتشارك معها السخط العام على الواقع المرير التي تعيش فيه كلّ الشعوب المحرومة والمقهورة، وضيق الأفقِ والرّؤيةِ البانية، واضطرابٍ في المنهجية التفكيرية، وفي التّصلّب الذّهني-الفكريّ، وطغيان مشاعر السّيطرة والفوقية على الآخرين والمبنيّة على الفقر المعرفيّ. إنّ مثل هذه العقول التي تفتقد المرونة وسعة الأفق المعرفي هي التي تَعجزُ عن تقبّل التّباين والاختلاف التي هي سنّة الحياة، والتي تقود شعوبها كذلك إلى التّدمير الدّينيّ والدّنيويّ .
ونتيجةً لتفاعلات كلّّ تلك العواملِ السابقةِ الذِّكرِ، يخرج لنا إنسانٌ منغلقٌ يدور حول تصورٍ وحيدِ الرّؤيةِ للحياة التي يجب أن يحياها هو ويحياها الأخرون كما يراها هو لا كما ينبغي أن تكون الرّؤية، ولا يقبل أنصاف حلول حسب فهمه ولا اختلاف رأيٍ، ويتكلّم بلغةٍ حديّةٍ عنيفةٍ متيقّنة دائماً شعارها “إمّا أنت معي أو ضدي”، ويتنكّرُ للمخالفِ حتّى لوكان من محيطه الأسريِّ القريبِ، ولا يتحمّل التّجاذبات الكلاميّة ولا الحوارات الفكريّة، ويبادر إلى القطع والقطيعة والاسكات ولو بالقتل والاماتةِ.
نحن إذن أمام أفرادٍ من المجتمع يُمثّلون كلّ مساوئنا ومآسينا التّربويّة، وإسقاطاتنا الفكريّة، وانحرافاتنا العقديّة، واضطراباتنا النفسيّة، وأخفاقاتنا السياسيّة، ثمّ إنّ التّنكّر لهم لا يُحضِرُ حلّاً ولا يصنع بيئة مؤاتية تُنتِجُ مجتمعاً صحِّيّاً في كلّ أبعاده النفسيّة-الاجتماعيّة، والعلميّة-الثّقافيّة، والاقتصاديّة-السّياسيّة، ولا يخلق مجتمعاً وردّيّاً مثاليّاً نظيفاً. إنّ مواجهة الواقع ، والاعتراف بأنّهم جزء من منظومة مجتمعيّة تعاني الهشاشة في كلّ شيءٍ ، يفتح الطريق أمام الحلول الممكنة بعيدة المدى. إنّ الائتلاف وتظافر الجهود هو ما يَقلِب نتائجَ المعركةِ الفكريّة. وإنّ التّصدّى لهذه المعارك المتعدّدة الأبعاد بصدور عامرة بالثّقة الايمانيّه النّفسيّة، والقوّة العلميّة الثقافيّة، هو ما يعيد ترتيب البيت من الدّاخل وإعادة تكوين هذا الإنسان الساخط على وجهٍ صحيٍّ وإيجابيٍّ في الحياة دينيّاً ودنيويّاً .