أحببت مشاركتكم بعدة ملاحظات في محطات من حياة أيزنهاور، القائد العام للجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية ثم القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا وشمال أفريقيا، ثم الرئيس الرابع والثلاثين للولايات المتحدة من عام 1953 حتى 1961 ثم رئيس جامعة كولومبيا الأمريكية. وهي اقتباسات نقلتها بتصرف من كتاب “الخالدون” لديل كارينجي ثم أعلق كل مقتطف على حدة ثم مجتمعة بالختام.
1. .. عندما كان شاباً كان نهماً في القراءة. كان يتردد على مكاتب مجلة أسبوعية في مدينة كانساس اسمها “أبيلين نيوز”. فاستعار يوماً من رئيس التحرير كتاباً في سيرة هانيبال القائد القرطاجي الشهير الذي يعتبر واحداً من كبار القادة العسكريين في التاريخ. وخرج الغلام من مطالعة سيرة هانيبال وقد تملكه شغف شديد بقراءة تاريخ الحروب. حتى بدأ يقرأ سيرة أشهر القادة وأشهر المعارك واحداً بعد الآخر حتى كانت سبباً في انتسابه إلى الكلية العسكرية. هـ
قلت: هنا تظهر لنا قيمة القراءة المبكرة والمستمرة والتي لا يعرف أهميتها إلا من خبرها. وهي أداة من أدوات رقي النفس ونجاحها ونهضة الأمم. ومطالعة سير العظماء في التاريخ خاصة، توقظ الهمم وتلهب المشاعر وترفع الحماس وتدفع الإنسان بالاقتداء بهم. وكما رأينا في الاقتباس هي الشرارة التي أيقظت كامن هذا الشاب من العبقرية والطموح. وكم استفاد الناس من قراءتهم لسير العظماء من الأنبياء والعلماء والصالحين، والمصلحين من الأدباء والفلاسفة والمفكرين، والقادة من السياسيين والعسكريين والمناضلين. وفي هذا الصدد يقول غوته الأديب الألماني الشهير: ((بحثت في التاريخ عن مثلٍ أعلى للإنسان، فوجدته في النبي محمد صلى الله عليه وسلم)). غوته: “الديوان الشرقي للشاعر الغربي”، نقلاً من “أسوة للعالمين” للدكتور راغب السرجاني. وبعد غوته بمائة وخمسين سنة تقريباً جاء مايكل هارت الأمريكي وقال: ((في اعتقادي أن محمداً كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي)). مايكل هارت: المائة الأوائل. وقريباً من هذا أو ذاك قاله العديد من المستشرقين والكتاب الغربيين المنصفين في النبي صلى الله عليه وسلم كوول ديورانت وأرنولد توينبي وغوستاف لوبون وتوماس أنولد وليو تولستوي وغيرهم. فلو لم يقرؤوا سيرته وحياته لم ينصفوه هكذا، بينما يوجد اليوم من ينتسبون إليه وإلى دينه ثم لا ينفكون عن هجومه وكيل الاتهامات والافترءات له التي لا تمت له بصلة لا من قريب ولا من بعيد؛ لأنهم ببساطة يرمونه بتلك السهام عن جهل به.
2. .. ويرجع هذا الاطلاع الواسع إلى أنه منذ تخرجه في الكلية الحربية وهو يقضي معظم أوقات فراغه في دراسة التاريخ الحربي. وقد روى لي ابنه (القائل هو المؤلف) أنه في زمن السلام كان يقرأ في ليلة واحدة مجموعة كبيرة من المجلات ولكن عندما وضعت على كاهله أعباء قيادة التحالف في أوروبا، طار إلى لندن ولم يأخذ معه إلا كتاباً واحداً، “هو الكتاب المقدس”. هـ
قلت: من صفات الشخص الناجح التمسك والالتزام بما يؤمن به كعقيدة، خاصة في الأوقات الصعبة والحرجة. فالقارئ النهم في وقت السلم الذي كان يقرأ آلاف الكتب والمجلات، اكتفى بحمل الكتاب “المقدس لديه”، في وقت الشدة؛ لإيمانه بنفعه في مثل هذا الظرف وأنه الصلة بينه وبين ربه. والادعاء والتسويق بأن الغربيين رموا دينهم وعقائدهم خلف ظهورهم؛ لأنها بالية قديمة ليست صحيحة أو دقيقة، بل هي خدعة انطلت على الكثيرين منا.
3. .. وهو في العادة يعمل من ستة عشر إلى ثمانية عشر ساعة يومياً. يستيقظ عند بزوغ الفجر .. وكان من عادته أن ينهض من النوم في منتصف الساعة الخامسة صباحاً في أبرد أيام الشتاء .. ليشعل النار في الموقد، وليطهو طعام الإفطار للأسرة! . وأحياناً كان يقصي زوجته خارج المطبخ، ويطهو لها الطعام، ويرتب المائدة، ثم يغسل الأطباق بعد ذلك .. ولا عجب أن تقول فيه زوجته إنه أبرع من رأته عيناها! هـ
قلت: مع هذه المهام والواجبات الكبيرة الملقاة على عاتقه من قيادة الجيوش خارجاً وداخلاً ورئاسة بلد كالولايات المتحدة ورئاسة جامعة، مع كل هذا، لدى الرجل متسع من الوقت ليساعد أهله ويطهو لهم الطعام وهم نيام. والعجيب أن تلك المهام الضخمة لم تمنعه من أداء واجبات ربما أقل، ولكن لها أهميتها لللأسرة والمجتمع. ولذلك فمساعدة الأهل في البيت والشعب خارجه بحاجة إلى قناعة راسخة بفوائدها ودورها في نهضة الأمة وأنها لا تتعارض ولا تعرقل مع مهماتك الرسمية. وإذا كان أيزنهاور يطبخ لعائلته، فأبوبكر وعمر كانا يطبخان لضعفاء المسلمين وأيتامهم ولم تمنعهما من أداء واجباتهم.
4. .. كان لا يشرب الخمر بتاتاً، وحجته في الامتناع هي أن رأسه مليء بالأسرار التي لا يأتمن لسانه عليها إذا سكر!. هـ
قلت: التزام المبادي واحترامها يتم إما عن طريق اعتقادها دينياً وتنفيذها كعبادة، أو الموازنة بين مصالحها ومفاسدها ثم الاختيار الأنسب طواعية، أو مراعاة للقوانين إن كانت ثمة قوانين تحرم أو توجب هذا الأمر أو ذاك. يعلمنا هذا الرجل بدل التنصل من هذا الأمر أو ذاك تحريماً أو تنفيذاً وحسب الشرع أو القانون، أن تسأل نفسك فما أهميته بالنسبة لك شخصياً؟ وماذا تجني منه ربحاً أو خسارة بتركه أو فعله؟. كم من قادة العالم الثالث جلبت لهم الخمر والمسكرات وإفشاء الأسرار مشاكل لا حصر لها، بعد أن أصبحوا أسرى لتلك الورطة التي لم يفكروا في عواقبها.
5. ولا تزال أم أيزنهاور -السيدة أيدا-، وقد تقدمت بها الأيام تقطن في أبيلين .. وذات يوم جلست تطل من نافذتها على الفتيان وهم يمشون مشية عسكرية في الشوارع، فتمتمت لصديقة جالسة إلى جوارها قائلة ((إن لي أيضاً فتى في الجيش)). أجل يا أم الجنرال “إن لك فتى في الجيش .. وأي فتى” . هـ
قلت: توقيت هذا العبارة يبدو أنه قبل الرئاسة وفي أيام كان ابنها قائداً للجيوش. كما يلاحظ أنه كان باراً بأمه من خلال علاقة الأم بابنها الممتازة حيث تتلذ بذكر ابنها والافتخار به عكس لو كانت علاقته سيئة معها. مهما كبرتَ وتعلمتَ وتقلدتَ المناصب فأنت لا زلت أمام الوالدين صغيراً وقليل الخبرة. فلا ينكفان يسديانك النصائح تلو النصائح والأفكار تلو الأفكار. فلا تكابر ولا تعاند أوامرهم وآراءهم ونصائحهم بل أبد لهم أنها على العين والرأس. وإذا لم تتماشى نصائحهم مع مهامك الرسمية وواجباتك الوظيفية وحياتك العائلية حاول تفاديهما بدبلوماسية واحترافية ولباقة وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة.
وأخيراً، فهمي لهذه المقتطفات وهدفي من هذا المنشور هو أن النجاحات تجلب بعضها وباكورتها تفتح الطريق لأخراها، كما أن الفشل مرتبط ببعضه وبدايته بريد لآخره. فالنجاح الدراسي ثم المهني بأنواعه والاجتماعي والديني مرتبط ببعضه كما أن كل واحد منه يمهد الطريق للآخر. والجدير بالذكر أن باكورة النجاحات كلها هي كسب المعرفة ورقي الإنسان ورفع شأنه من خلال القراءة الهادفة. ومن أهم ما يفتتح به الشخص مشروع القراءة بعد كتاب الله تعالى قراءة “سير العظماء” لأهميتها في إيقاظ الإنسان وإطلاق طاقاته، كما حدث لصاحبنا هذا. وعليه، لم يكن تأليف الإمام الذهبي سفره العملاق “سير أعلام النبلاء” وأمثاله من العلماء الآكخرين عن عبث، وإنما لأهمية هذا الفن في حياة الأمم والأشخاص.