على المرء أن يكون في تمام القابلية لتلقي المعلومات الحديثة، وعلى غاية الأهبة لتلقف الفوائد الجديدة واختزان الأوابد من كل شاردة وواردة،
فالإنسان متعلم بالفطرة ومستفيد بالجبلة، فهو يتعلم من مدرسة الأيام، يستلهم منها العبر ويستنبط منها العظات والدوس المجدية، حتى تعركه التجارب ويصير محنكا يحمل رصيدا عاليا اقترفها من تقلبات الدهر وصروف الزمن.
قال طرفة:
ستبدو لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقال الجواهري:
ومن لم يتعظ لغد بأمس
-وإن كان الذكي- هو البليد
كما يتعلم من بيئته الإجتماعية، مثل البيت والمدرسة والسوق والملعب الرياضي وغير ذلك،
إذا تقرر هذا فعليه ألا يكون دوغمائيا يجمد عند فكرة معينة ويتشبث بأمر محدد لا يتغير ولا ينثني، بل عليه أن يتدرب على المرونة والبحث عن الحقيقة، وهذا لا يعني أن يذوب في كل شيء وأن يكون متقلب المزاج، أو أن يكون كالغصن يحركه كل ما هب، بل أن يكون جادا في البحث عن الحق والعلم.
وفي سبيل تحقيق هذا الأمر علينا أن نشغل حاسة السمع للإصغاء للإخرين.
فالإنصات للطرف الآخر يدل على عقل راجح وينم عن ثقافة عالية كما قيل:
وتراه يصغى للحديث بسمعه
وبقلبه وهو أدرى به
فالإصغاء للآخر من مقومات صناعة الحوار وأساسيات التواصل، فإعطاء الإهتمام للطرف الآخر هي نقطة التماس مع قلبه.
وأكبر حاجز يعكر صفو الحوار هو رفع العقيرة والثرثرة الفارغة التي لا تكاد تنتهي، ومقاطعة الآخر وعدم إعطائه فرصة والاستئثار بالكلام وهذا يعبر عن خواء فكري وفراغ عقلي وغرور نفسي (فالفارغون أكثر ضجيجا)
“يقول الفيلسوف الألماني أو. ف. بولنوف: ” إن الشرط المسبق الأول للحوار هو القدرة على الإصغاء إلى لآخر، والإصغاء بهذا المدلول يعني أكثر من التقاط الإشارات الصوتية، كذلك يعني أكثر من فهم ما يقوله الآخر، إنه يعني أن أدرك أن الآخر يود أن يقول لي شيئا، شيئا مهما بالنسبة إلي، شيئا علي أن أفكر فيه وقد يرغمني -إذا دعت الضرورة- على تغيير رأيي.
أما الشرط المسبق الآخر فهو الثقة بالآخر، وتعني أن يكون المرء مستعدا للتصريح برأيه ولا يخشى الأذى. وقد قال الفيلسوف الصيني “لاوتشه”:”إذا لم تثق بما فيه الكفاية فلا أحد سيثق بك”.”
انظر مقدمة كتاب فن الإصغاء ل( إريك فروم).
والمقصود بالشرط الثاني ان تثق في المتحدث أو الطرف الآخر في الحوار أنه سيقول شيئا مهما وتوليه الإهتمام وتعيره السمع بلا مقاطعة.
فإذا انتهجت نهج الٱزدراء به والتحقير له وأنه لن يقول شيئا مهما، فثق أنه سيفعل نفس الشيء معك على سبيل المماثلة.
فالكثير ممن رأيتهم حين يتكلم يعطي الاهتمام وينشط ويتحمس وينفعل ….
أما حينما تأتي نوبة الآخر فيبدأ أن يشتغل بالجوال أو بأي شيء تلمسه يده أو يشرد ذهنه أو يبدأ بالتذمر قبل أن يقول الآخر كلمتين، فإذا عاد إلى الكلام يرجع إلى سابق عهده في النشاط والاهتمام فهذا يترجم عن عدم ثقته بغيره وقناعته المسبقة بأنه الوحيد الذي يحق له الكلام ويبدع فيه وينثر دررا.
أما غيره فلن يأتي بشيء وإن أتى فليس بجديد وهذا في غاية الغرور، ولا يعرف فن الإضغاء، ولا يعلم أنه إذا تكلم فإنه يكرر معلوماته التي اكتسبها سابقا ولا يكتسب معلومة جديدة أو طريقة جديدة أما إذا استمع فالأمر يختلف أو على الآخر يستمع ويتكلم.
يقال: “أن المرء قد أعطي أذنين وفما ليستمع أكثر مما يتكلم”.
Post Views: 32