تعتبر القومية العفر والعيسى المنتمية إلى القومية “الصومالية” من أبرز الإثنيات القاطنة في الشريط الساحلي من مضيق باب المندب وشرق إثيوبيا، بشكل متجاور، وأن تلك القومتين من أوائل المسلمين اعتناقا بالإسلام في القرن الإفريقي، ويتحدث العفر والعيسى الصوماليون لهجتين متشابهتين تنتميان إلى أصل اللغة الكوشتية، حيث أن مفردات تلك اللهجتين تلتقيان في 10% من ألفاظها، وبذلك لا توجد بينهم صعوبة في التفاهم. كما أنه ليس هناك تفرقة بين سكان هذه المنطقة عند التماسهم من حيث اللون والدين والوحدة الجغرافية، ويتوزع كل منهما بين ثلاث دول، ويعدون من الشعوب الحامية التي استقرت في منطقة القرن الأفريقي، وقد تطورت بينهما علاقات قديمة، ولكن هذه العلاقات تتوتر أحيانا وتستقر تارة أخرى بفعل السعي وراء المرعى والكلأ والاحتكاك على موارد الماء بالنسبة للرعاة المتنقلين غير المقيدين بالحدود السياسية للبلدان التي يعيشون فيها, بل ويراهنون على نزول المطر فقط حيثما ينزل ومما يتوافق مع طبيعة حياتهم الرعوية .
وكانت طبيعة علاقاتهم الاجتماعية غير مستقرة، وفي نفس الوقت وعلى مدى عقود من الزمن عقدت مصالحات واتفاقيات اجتماعية ملزمة بين الطرفين، والتي نصت على العقوبة التي ينالها الطرف المخل بها. إلا أنها وللأسف الشديد بقيت – ما عدا فترات محدودة- حبرا على ورق بفعل ما شابها من الخروقات والانتهاكات المتكررة من الطرفين.
وأما ما يتعلق بالصراعات الدامية المؤسفة القائمة منذ سنتين بين الطرفين فهي صراعات مفتعلة وغير تقليدية, وعند النظر إلى الحجم الهائل لضحاياها وما خلفته من أضرار بشرية ومادية غير مسبوقة وما يتعلل به كل طرف لخوضها نجد أن أسبابها ودواعيها غير حقيقية بل هي مجرد أوهام، وأن هدفها تصعيد العداء بين أبناء المنطقة الواحدة فقط لاستغلال مواردهم، وإبعادهم عن مواقع اتخاذ القرار، وإشغالهم بهذه الحروب العبثية التي لا غالب فيها ولا مغلوب، وكل هذا يعود لضعف مستوى نضجهم السياسي وعدم إلمامهم بآليات فض النزاعات وسبل حل الأزمات بطريقة لا تتعارض مع قيم ومصالح كلا الجانبين، وهو أمر متيسر نظرا للروابط المشتركة الكثيرة بينهما ويأتي في مقدمتها وحدة الدين والمصير والجيرة.
كما أن بالإمكان تخفيف حدة النزاع وتقليل خسائره، في حالة إذا ما تجدد لسبب ما، وذلك من خلال توسيط أهل الحل والعقد، وتمكينهم من احتواء الموقف بفتح قنوات للحوار وعقد جلسات للعصف الذهني لإيجاد حل دائم لإيقاف هذا النزيف ونزع فتيل الثارات وإخماد روح الانتقام، ومن ثم التفرغ للمصالح المشتركة والتنمية الريفية. وقد حاولت هذه الدراسة جادة فهم طبيعة تلك الصراعات وأبعادها السياسية، وخلصت إلى أنه لا يوجد أي مبرر أخلاقي لسقوط تلك الأرواح وإهلاك كل هذا الكم من الحرث والنسل، وأن هناك أيادي خفية تدير هذه الحروب من وراء الكواليس لأجندات خاصة بها لأنها لا تجد مصالحها الشخصية الضيقة في إثيوبيا منفتحة ومتحدة ومراعية لحقوق الإنسان ومتصالحة مع ذاتها، إضافة إلى ذلك فإن الصراعات الجارية في الشرق الإثيوبي تعتبر جزءاً من مساعي خلخلة الاستقرار وخلق حالة من الفوضى العارمة لمحاولة تفكيك هذه الدولة المحورية، وهو أمر حسب المحللين والمطلعين على الشأن الإثيوبي لا يتعدى كونه مجرد أمنيات تداعب مخيلة قادة الثورة المضادة، وقديما قيل ” تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”.
وقد وضع رئيس الوزراء الإثيوبي الإصلاحي الدكتور أبي أحمد النقاط على الحروف حين تحدث عن المستقبل السياسي لبلاده في أحد ” المنتديات ” فقال ( إن إثيوبيا كانت منذ القدم وستبقى كذلك موحدة قوية بفضل أبنائها الحقيقيين وإن فكرة تفكك إثيوبيا مجرد أوهام يدور في خلد البعض). وترجع خلفية هذه الصراعات إلى النظام الفيدرالي القائم على أساس البُعد الإثني والذي أسسه رئيس الوزراء الراحل ملس زيناوي بعد وصوله إلى سدة الحكم في إثيوبيا في عام 1991م، حيث تم تعديل النظام المركزي الإمبراطوري القديم إلى نظام فيدرالي إثني، لإظهار الوجه الجديد والعادل وعلى مستوى الأقاليم، وكان هدفه الظاهر مراعاة توازن القوى ولضمان الاعتراف بحقوق المواطنة التي تساوي بين الجميع بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللغة، ولإزاحة الاستعلاء الثقافي والاجتماعي للأمهرا في إثيوبيا، وأما هدفه الحقيقي فكان إبداع فكرة تجعل الأغلبية تخضع وترضخ لحكم الأقلية التجرينية، وطبقا للنظام الجديد فقد قُسمت إثيوبيا إلى تسع أقاليم موزعة على أساس عرقي- بدليل أن أغلب الأقاليم تحمل أسماء العرقيات أو( الإثنيات) القاطنة فيها-، وتتمتع بحكم ذاتي محدود، ويبدو أن هذا التقسيم الإداري الذي تبعته إثيوبيا في عهد “الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية” اختلف كلياً عن بقية التقسيمات الإدارية في عهود الحكومات السابقة، حيث أن التقسيم الجديد اعتمد على الفيدرالية الإثنية واتسم بأبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية ولم يقدم حلولاً ناجعة ومعالجات حقيقية في أرض الواقع.
وفي الختام أخاطب ضمير العلماء والأعيان والوجهاء كل من الطرفين إلى التنادي إلى مؤتمر جامع تحت شجرة ظليلة وبتمويل وجهد ذاتي، وبتمثيل متماثل، وبعيدا عن أعين وسائل الإعلام والسياسيين، وعلى ضوء النصوص الشرعية الداعية إلى الأخوة والوحدة ونبذ الخلافات والإحن، ووفق الأعراف والقوانين الموروثة أبا عن جد الراعية لحسن الجوار والذمم، والخروج بكلمة سواء تطوى فيها صفحة الماضي بما لها وما عليها، وتفتح فيها صفحة جديدة مفعمة بالأمل والأمن والرخاء.