يدور بمنطقة لاسعانود صراع قبلي سياسي، ولا إخال أن ثمة جدوى من وراء النبش في أسباب نشوب الصراع المحتدم منذ أسبوع من تاريخه –بقدر ما يمكن استثمار الوقت في التحليل مما يعود بالنفع على السلم الأهلي؛ وذلك برصد الآثار السلبية المترتبة عنه والحصاد المر الذي خلفه، ولماذا يستمر الصراع طول هذه الفترة رغم الفرص المتاحة لإخماده؟ وما الحلول المقترحة للمساهمة في حله، ولنبدأ في رصد الفرص المتاحة لوقف إطلاق النار متفائلين بهذا المرصد الإيجابي من جملة مراصدَ سلبية:
المرصد الأول: الفرص المتاحة لإطفاء الصراع
تلوح في الأفق عدد من الفرص المتاحة أمام المصلحين لإخماد الصراع في لاسعانود؛ علما بأنه لايمكن حل الصراع القبلي السياسي بالقوة مبدئياً؛ بناء على نماذج سابقة مماثلة أو معطيات نتائج واقعية، ومن تلك المعطيات والنماذج:
1-الاتعاظ بالتجربة الموروثة عن بقية المناطق في الصومال الذي مرّ بمعظم أشكال الصراع القبلسياسي الصومالي- الصومالي؛ مما يبعث على المتصارعين أخذ العظة والعبرة منهم؛ وبالتالي يتعين تغليب لغة العقل على لغة السلاح، والسعي لإحلال السلام في المنطقة قبل فوات الأوان.
2-وجود حكومة صومالية مركزية ذات سيادة، وحكومة إقليمية مسؤلة عن أمن الوطن والمواطن؛ مما يحول دون استمرار مواجهات كهذه أو هكذا يفترض، وهي فرصة لم تكن متاحة قبل عقد أو عقدين في معظم أماكن الصراع من الأراضي الصومالية.
3- الرغبة الجامحة للسلام لدى العقلاء من الساسة والحكماء وأهل الحل والعقد من العلماء والمثقفين وغيرهم؛ غير أن الأصوات الناجزة المرتفعة وطقطقة طبول الحرب المدويةــ، تكاد تصّم عن سماع أصوات راغبي السلام من أصحاب “الضمير”؛ بينما أصوات أمراء الحرب القليلة من القبليين المتحمسين عصبيا، وبعض القادة الاجتماعيين المنتقمين والسياسسيين المنتفعين- تملؤ الفناء والأثير والفضاء ووسائل التواصل.
4-طبيعة الصراع السياسي الذي يحتاج إلى قوة السياسة، لا إلى سياسة القوة؛ إلا في الحالات التي قد يتحول أحد الطرفين إلى معارضة شكلية تدعي ما لا تملكه، والطرف الاخر إلى حكومة وهمية توصف ما لا تستحقه. فالطرف المعارض يحسم أمره ويخرج من اللعبة بتوصيف نفسه، والطرف المحافظ يخسر كل مكتسباته بسوء إدارته- وحينها سيدرك الكل بأن الحرب لن تصلح ما أفسدته السياسة، وستنتهي الأمور بقبول المهادنة وبدأ المفاوضات، وتقاسم السلطة ودفع الديات وإعمار ما دمرته الحرب.
5-وجود مسودات مكتوبة لتوقيع اتفاقية من قبل الطرفين إحداهما من السلاطين في لاسعانود، وثانيهما من حكومة أرض الصومال،(وقف إطلاق النار مثلا) وفي حالة الاتفاق على بنود الاتفاقيتين اللتان وجري التفاوض عليهما، فثمّت انفراج، مالم يجد في الصراع جديد، ولو على مستوى وقف إطلاق النار.
المرصد الثاني:أسباب استمرار الحرب دون وصول حل:
من حق القارئ الكريم أن يتسائل، لماذا إذاً تُهدر كل هذه الفرص التي رصدنا جزء منها، ويستمر الحرب؟ وللإجابة عن هذا الاستفسار نفترض أن من أسباب استمرار هذا الصراع تكمن في الفرضيات التالية:
1- فرضية عدم وجود وسيط نزيه.
2-فرضية ضعف موقف الحكومة المركزية.
3-فرضية غياب دور الحكومة المحلية في أرض الصومال.
4-فرضية فقدان الثقة بين المتصارعين.
5-فرضية وجود أهداف غير معلنة للصراع.
ونبدأ من الفرضية قبل الأخيرة-فقدان الثقة بين الطائفتين المتصارعتين- حيث خلا هذا الصراع القبلي السياسي عن معظم القيم الإنسانية في الحرب والسلم، وتعوّد المتحاربون نقض العهود والنكوص في المواثيق، تبعا لعدم تقديم التنازلات في المفاوضات، وعدم القبول بالوساطات وتقاسم السلطات، ولا يخفى عن المتابع الحصيف لعبة بعض السياسيين الذين يصنعون نجوميتهم من إعدام شعوبهم؛ وبالتالي يماطلون تنفيذ الإتفاقيات السابقة، او يضيفون إليها نقاطا لاحقة من باب اطلب جملا لتجد غنما، وفي المقابل يتمادى الطرف الآخر ويفهمها بأنها شروط تعجيزية؛ وعليه فلا مناص من تجدد الصراع لاكتساب نقاط جديدة على حساب إزهاق أرواح بريئة.
أما فرضية ضعف موقف الحكومة المركزية فمدرك بالعقل المجرد؛ إذ هي غير متفرغة لصراع قبلي سياسي فرعي، طالما هي مشغولة في الحرب ضد الشباب، بالإضافة في انشغالها بنفسها مع ولاياتها الفيدرالية؛ وعليه فلا تملك الحكومة المركزية سوى بيانات الشجب وإلقاء اللائمة على القادة المحليين وقد تتعلل بدعوى الحياد.
أما الفرضية الباعثة على العتب فهي عدم وجود وسيط اجتماعي نزيه، يقوم بالإصلاح بين الطائفتين المتصارعتين؛وتجدر الإشارة أن المنطقة التي يدور فيها الصراع من أغنى المناطق الصومالية في التنوع الأسري للعشائر الصومالية بمن فيها قبائل عريقة في الثقافة والسياسة، ومنهم حكماء وشعراء بقامة زهير ابن أبي سلمي القائل عن الحرب:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمو* وما هو عنها بالحديث المرجّم.
وعشائر نبغ فيهم خطباء مفوهون يضاهئون الأحنف ابن قيس بخطبته في الصلح بين تميم وأزد؛ حين قال:
{يا معشر الأزد وربيعة، أنتم إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الصهر، وأشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو، والله لأزد البصرة أحب إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشام؛ فإن استشرف شنىآنكم، وأبى حسدُ صدوركم، ففي أموالنا وسعة أحلامنا لنا ولكم سعة}.
أما دور العلماء والمثقفين قي الوساطة بين الطائفتين فقد يواجه عقبتين:
الأولى: عقبة عدم الحياد إن كانوا من إحدى الطائفتين المتحاربتين والاحتجاج عليهم بمقولة” أن العلماء والمثقفين الصوماليين مع قومهم في المنشط والمكره” كما أثبتت الوقائع التي تؤيدها قوانين العصبية في المنطق القبلي الصومالي.
والعقبة الثانية: هي عدم امتلاكهم آلية للتنفيذ؛ إذ لا تسمع من العلماء والمثقفين سوى بيانات الترجى عبر المساجد والإذاعات بطريقة تذكيرية ووعظية، كما لو كان المتحاربون حدثاء عهد بالإسلام يجهلون مما هو معلوم من الدين بالضرورة كحرمة دم المسلم وفي الأشهر الحرم! وحتى السياسي يتحول إلى واعظ في المحراب أو محاضر بفلسفة الأخلاق عندما يحاطب المتصارعين؛ ولا يدرك بأن الله يزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن؛وأن الحل الناجع لقطع دابر الخلاف، يكمن في إقناع المدعي عمايشتكيه من ظلم، والمطالبة بتقسيم السلطة والموارد بالعدل وأخذ يد الظالم منه، أو رفع التوهم عن المتظلم وتصحيح مفهومه وبيان أن شكواه في غير محلها.
المرصد الثالث: الآثار السلبية المترتبة عن الصراع
من الآثار السلبية التي خلفها الصراع القبلي السياسي في لاسعانود ما يلي:
1-النزوح الهائل: حيث خلت مدينة لاسعانود من السكان،بسبب القصف، والهجرة القسرية حتى للبهائم الرتع التي كانت تمر بأحلك الظروف إلى أماكن لا يتوقع أن تعيش البهائم في موسم جمع القيظ والجفاف، كما أثر هذا النزوح جميع المؤسسات الاجتماعية بما فيها مؤسسة التربية والتعليم.
2-فقدان السلم الأهلي.وذلك بفقدان الثقة، أوضعفها لدى كثير من أفراد الطائفتين ولوكانوا بعيدين عن أماكن الصراع؛ مما أثر على الجيرة الإسلامية، والتقاسم بلقمة العيش مع مجموعة العمل وأصدقاء المهنة، والاشتراك في الرؤى لحل النزاع.
المرصد الرابع: بعض مظاهر الحصاد المرّ من الصراع والمحاولة بالمساهمة في حلها.
لا يمكن حصر المظاهر السلبية التي خلفها الصراع القبلي السياسي في لاسعانود: من إزهاق الأنفس، وتدمير البنى التحتية، وإهدار المال المنقول وغير المنقول؛ غير أن من أسوء ما أثاره هذا الصراع، أو ما سيخلف عنه على المدى المنظور ما يلي:
1-توفور وقود للحرب من الشامتين والشاتمين -عبر وسائل التواصل الاجتماعية؛ لإحياء النعرات القبلية والاصطفاف العسائري والإقليمي؛ مما يقسوا على اللحمة الاجتماعية فضلا عن الوحدة الوطنية.
2- إحداث ثلمة في الثقة وقدح نزاهة الحصن الأخير، من الحصون التي يلجئ إليها الصوماليون، وهو حصن القادة الاجتماعيين من السلاطين والعلماء؛ وذلك فى اتهام بعضهم بالتورط أو بالتحيز وعدم لزوم الحياد، ومجاهرة آخرين بتسمية الفتنة القبلية بأنها حرب مقدسة، في محاولة منهم لتأميم الدين، وأسلمة القبلية.
3-ضعف مهارة التفاوض لدى الساسة الصوماليين وعلى رأسهم قادة في الشمال بدأ من الرئاسة ومرورا بغرقتي البرلمان والقادة العسكريين بمن فيهم قادة من أهل لاسعانود.
المرصد الخامس: التوصيات والمقترحات:
من السهولة أن يقترح أي كاتب أو ناصح رأيه للمساهمة في حل مثل هذه المشكلات؛ غير أنه من الصعوبة أن يتوصل إلى مايُرضي الأطراف جميعا، ولو كانوا من قراء مقالتي هذه، فضلا عن أطراق الصراع المعنيين بالحل؛ وعليه أحاول إمساك العصا من المنتصف ريثما يتبن لي المحق من المبطل في الصراع،إذ تنقصني المعلومات الكمية والكيفية في أرض الصراع، وأوصى باتباع ثلاث خطوات للمحاولة في مساهمة حله:
الخطوة الأولى:السعي إلى وقف إطلاق النار دون قيود وشروط، والجلوس على الطاولة أيا كان شكلها، وذلك بـ:
1-إيفاد لجنة (بعثة صومالية) من السلاطين والسياسيين والعلماء والأكاديميين من القبائل الصومالية من غير الطائفتين، بقيادة شخصية توافقية إلى لاسعانود وهرجيسا؛ لحمل(الرسائل الودية) وتعزيز الثقة وبناء المصالحة.
2-تحمّل الهلال الأحمر الصومالي مهمة التنسيق الأمني للجنة، وتتحمل اللحنة تكاليف المهمة.
الخطوة الثانية: ترقية اللجنة إلى مستوى بعثة؛ وذلك بطلب من اللجنة إلى مساندة إقليمية للوساطة، وبما أن اللجنة لا يملك قوة ناعمة أو خشنة؛ فلابد لها من جهة تساندها في الننفيذ إذا أثمرت وساطتها، أو تذلل لها الطريق إذا واجهت صعوبات أمنية أو فنية.
وما لهذه الخطوة من خطورة لحساسية الموقف، وضعف الثقة في الدول المحيطية بالقطر الصومالي، بسبب الاصطفاف المصطنع العابر للحدود- يوصى أن تأتي هذه البعثة من دول إفريقية خارج منظمة إيغاد.
الخطوة الثالثة: وهي مساندة للخطوتين أعلاه- وذلك حصر الحلول على المشكلة القائمة، وهي النزاع السياسي في لاسعانود بين حكومة أرض الصومال، وعشائر الخاتمة دون القفز إلى خطوات أخرى مثل:
1-ملف محاربة الارهاب، ورغم المخاوف من محاولة الأشرار، الذين ينبتون من بؤر الصراع لمحاولة الاصطياد في الماء العكر، إلا أن مما يوصى تأجيل هذا الملف(في حالة اصطناعه) لغاية حل المشكلة الأساسية.
2-ملف مطالب تكوين ولاية من طرف واحد، وهذا ليس خاصا بأهل لاسعانود؛ إلا أن إشكالية صناعة الولايات قي أرض الصومال، قد تؤدي ألى انفراط عقد المسبحة، مما يزيد الطين بلة وينسف عميلة السلام بالمنطقة برمتها.
3-تحييد ملف بقية المناطق في أرض الصومال، وملفات أحزابها في الانتخابات، بما فيها ملف محادثات المركز مع أرض الصومال المجمّد أصلا.
4-لا لمطالب التحكيم أو الإحقاق أو التعزير أو الإطلاق أوالإسقاط، كشروط استباقية لعمل اللجنة أو البعثة، ريثما يتم الصلح والإثبات فالتحكيم، ثم إمساك بشراكة في الحكم أو تسريح بإحسان.
المقترحات
أولا: آمل تقديم مقترحات مماثلة تكمل النقص، وتسدّ الخلل من المتابعين، ومن ثم تقديم الرؤية الجامعة.
ثانيا:دعم المبادرات الجهوية من العلماء والساسة، والسعي إلى توئمتها مع الأفكار والمبادرات المماثلة.
ثالثا:إطلاق نداء عاجل بكل صيغ النداء لإغاثة النازحين من لاسعانود، يا للأغنياء للفقراء.
رابعا:مزاحمة الفضاء والأثير، ووسائل التواصل الاجتماعي- على مالكي مفاتيح الشر، والدعوة للتعاون على البر والتقوى.
جعلني الله وإياكم مفاتيح للخير ومغاليق للشر، فاللهم اصلح ذات بيننا وألف بين قلوبنا..
هذا وما كان من صواب، فمن الله وحده، وما كان من خطأ، فمن حظوظ نفسي، وحسبي أن أستعيذ بالله من شرها ومن شر الشيطان الرجيم.