إنّ إعلان دخول البلاد إلى حالة حرب مع حركة الشباب الإرهابية، هو إعلان بإن يقف الجميع على الحد الفاصل بين الحياة والموت، و بأنّ الإقدام إلى المعركة رهان مع الموت، و أنّ الإحجام عنه مُهادنة معه أي الموت، و أنّ الحظ وحده هو الذي يتراوح ويتذبذب فوق رؤوسنا، وذاكرة الخوف والعجز هي التي تتسأل: أليس كان من الأفضل التريث وتجنب ركوب قطار الموت أو على الأقل تأخيره؟
و في تلك اللحظة تذكرت آيةً طالما استوقفتني، وهي آية الحوار الذي دار بين الملائكة والمستضعفين في الأرض في عرصات القيامة بعد بعثهم، كان حواراً بين سطوة ذهنية التبرير أو التفكير التبريري في النفوس المنهزمة، وصوت العقل والمنطق الذي يؤمن في العزم والعزيمة وفي القدرة على الفعل، فنجد في الآية أن الله عز وجل سمّى المستضعفين (ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) للدلالة على أن “حرية الإرادة” في الإسلام هي من أعمق المسلمات التي لا تقبل النقاش، والتنازل عنها هو التنازل عن الإسلام وقيمه العليا و أولها العزّة والحرية، والثقة في الله و التوكل عليه ثم الثقة بالنفس.
هذا الاستنتاج أدخلني في حيرة من أمري، وهو كيف لا يكون الضعف و الشعور بالعجز وعدم الحيلة مخرجاً؟ فإنّ الحل أو الإجابة عن هذا التساؤل، هو في العودة إلى الحوار في الآية، والتأمل في هذا السجال الملائكي البشري، والتوغل في أعماق مفرداته، والتسلُح بنظرة نفسية اجتماعية، لكي نجد ذلك بأن المعادلة ليست عصيّة على الفهم: أنفسٌ أبيةٌ عزيزة = حياةٌ حرّة كريمةٌ.
ومن الناحية النفسية؛ فإنّ الملائكة كانت تُخاطب المستضعفين في الآية من منطلق تقدير الذات أي “بأنّ الإنسان المسلم عزيز النفس”، فهي بذلك أخرجت من احتمالات الإجابة “بأنْ يكون المسلم ذليل النفس”، لأن النفوس غير العزيزة هي نفوس ضعيفة تتمسك بالحبال الواهية، وتتحاجج بالضعف والهوان، فهي أنفس فقيرة من العزّة التي وصف الله بها نفسه، وبالرسول، وبالمؤمنين “ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون” ولذلك فإنّ النفوس الواهنة لا تترك خلفها أثراً ولا ثمرة، و تنظر بالعين ولا ترى، وتسمع بالأذن ولا تعي، هي أنفس قد اختل عندها التوازن النفسي، فتكون مع العدو خشية أن تدور عليها الدائرة “يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة”، ولا تعرف أن تعيش حية عزيزة فاعلة، بل تفضل أن تعيش حياة غثائية قابلة لكل شيء، تقلّبها رياح الحياة أنّا شاءت.
وأما من الناحية الاجتماعية، فإن جواب (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) يفتقد ” الحس المشترك” الذي يساعد الإنسان، بالفطرة، التمييزَ بين الصواب و الخطأ، الذي يجعله يلتزم بالقوانين الأخلاقية من الرحمة بمجتمعه والنجدة له عند الملمّات، ولذلك فإنّ الحس المشترك ينشئ مجتمعاً يتفق حول معانِ بديهية لا يختلف عليها عقلاء البشر جميعًا: حماية الأوطان، ومحاربة الظلم و الظالمين، و إرجاع الحقوق إلى أهلها، و إقامة العدل.
يقول علماء النفس “أننا مهما حاولنا أن نقنع الإنسان بأنه أسير لظواهر (البيئة الطبيعية والاجتماعية) فإننا لا يمكن أن ننجح تماماً أن نقضي على ما لديه من الحرية إذا لم يُريد (هو) ذلك”.
فإنّ الأمة الصومالية اليوم، قد استفاقت لتستعيد حريّتها بعد أسرٍ طال أمده، لتحطّم أغلال “حركة الشؤم والإرهاب” التي جعلتنا أحياءً أمواتاً. فإنّ رايات الحرية التي تُرفرف الآن في أنحاء كثيرة من ربوع الوطن تحتاج إلى “أنفس عزيزة متسلحة بالحس المشترك، وشبكةِ علاقاتٍ اجتماعية متينة، وتوافقٍ سياسيٍ مسئولٍ” حتى لا نكون (ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ)، وَلْنسال أنفسنا، هل يستحق شعبنا كل ما عاناه وما يزال يعانيه من الكبت و خلق الكراهية والقتل والتهجير والتجهيل والإفقار باسم الدين؟
لا أظن أنّ أحداً يجيب بنعم عن ذلك التساؤل، ومن العدل يا سادة أن ننظر إلى ما وراء الأشخاص، أي أن نقيِّم الظروف، ونتحلى بالحكمة، و أن نضع هواجسنا وخلافاتنا جانباً، ونعترف بأن العيش في وطنٍ مُوحَّدٍ قوي مرهونٌ بقدراتنا و وحدتنا فقط لا على أي قوى خارجية مهما كانت حَسَنَةَ النيّة، ولذلك لا أحد يصنع لك وطناً ولا سلاماً، ولا أحد يجعلك عزيزاً حراً، بل أنت فقط من تصنع حاضرك ومستقبلك أو تُضيِّعهُما.