رغم أن الصومال مرَّ في مراحل كثيرة كان للدعاة فيها رنة وشنة إلا أن جهودهم انحصرت في الآونة الأخيرة في التأييد المفرط المتماهي مع النظام أو معارضته على استحياء مع وجود بعض الأصوات المتخبطة التي ماترال تعيش في أيام التسعينات ومازالت تسيطر عليهم عقلية المعسكرات ودفع الصائل، وليس من المستغرب أن تتبنى هذه الأصوات الموغلة في القدم والضبابية فكرا رافضا للديمقراطية جملة وتفصيلا، ولكن المستغرب أن تصدر من بعض منابر الجمعة من يرفض الدستور والفدرالية ويصفها بصناعة الكفار!، وهذا يؤكد لنا أن الوسط الدعوي يعيش في أزمة فكرية مستعصية حيث اختلط فيها الوعظ بالسياسة، ولم تعد المفردات السياسية تودي معناها الحقيقي، لتصبح المعارضة خيانة والديمقراطية كفرا والدستور بضاعة كفرية!، ومن يدري أن نسمع غدا من يقول لنا إن التبادل السلمي للسلطة بدعة وضلالة،؛ لأن الأفاضل لا ينظرون إلى هذه الأمور بوصفها نوازل فقهية تستدعي اعادة النظر والحكم عليها بما يتناسب منها، كونهم استمرأوا التقليد أو النقل من جهة واحدة، يرون أنها تمثل الطائفة المنصورة.
بناء الدولة:
وبما أن مسيرة بناء الدولة في الصومال انحصرت في استراتيجية بناء الدولة واستكمال المصالحة التي تبنتها جميع القوى السياسية الوطنية، واستراتيجية إدارة التوحش والدمار التي تبنتها حركة الشباب والداعش، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو فما استراتيجية هؤلاء الدعاة بعيدا عن الأمثلة التاريخية الموغلة في المثالية، والتأييد المطلق لمن غلب؟.
لدلك عندما يتابع المرء عن الأفكار التي يقدمها الدعاة من على منابرهم مقارنة بما يجري في وسائل التواصل يدرك أنهم لم ينفتحوا على المجتمع ولم يعرفوا مطالبه الحقيقية، مما يجعلهم يتخبطون في خطابهم، وكأنه ليست هنا صلة بينهم وبين الشعب، والأغرب من ذلك أنهم لم يدركوا حتى الآن أن تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية للدولة المعاصرة وعلاقاتها الدولية معقد جدا بما فيها السياسات التعليمية والصحية والإعلامية وإدارة الجودة واتقان العمل وتقليل الفساد، ومن المؤكد أن الخطاب الدعوي الصومالي لم يعد يفهم كثيرا من آلياتها فضلا عن حلها.
وعليه من الأفضل للدعاة مراجعة مسيرتهم الفكرية ليتسنى لهم اعادة فرز أفكارهم والتعامل مع الواقع الجديد بروية، وإلا فسينتهي دورهم الروحي كما انتهى دورهم القيادي بعد المحاكم.
الديموقراطية:
إن النقاش في حكم الديمقراطية ليس جديدا في الساحة الدعوية وقد استحوذ الكثير من الجهد في داخل الحركات الاسلامية منذ زمن، وصدرت فتاوى متباينة من العلماء، ومن المعلوم أن مشكلة الخلاف كانت تكمن في النظر إلى فلسفة الديمقراطية أم بجوهرها، أو بتعبير آخر هل هي طريقة في الحكم أم طريقة لتحديد من يحكم؟، فانقسم العلماء إلى فريقين فريق جعل العملية برمتها كفرا وآخرون جعلوها نوعا من الشورى التي دعا إليها الاسلام، كما تتابعت الفتاوى بجواز دخول المجالس النيابية لمصلحة راجحة، إذاً ليس هناك إجماع بحرمة الديمقراطية كما توهمها البعض، بل إن أمر الديمقراطية والمشاركة في الدولة المعاصرة أصبح قول الأكثرية بعد الثورات العربية، ولم يعد رجسا من عمل الشيطان إلا عند من يؤمن بالطاعة المطلقة لولي الأمر، وأن الشورى ليست ملزمة؛ ومن الواضح جدا أن قول هذا الفريق قد يفضي إلى افراغ الشورى من معناها ويؤدي إلى الاستبداد والتعسف. إذاً فالديمقراطية هي “الوسيلة الميسورة والمنضبطة لتحقيق هدفنا في الحياة الكريمة” كما يصفها العلامة القرضاوي.
الدستور:
أما الدستور فهو القواعد والأحكام التي تنظم السلطات العامة في الدولة واختصاصاتها؛ لذلك فهو المصدر الأساسي للقوانين والتشريعات التي تستخدمها تلك الدولة، ومن هذا المنطلق فإن الدستور هو الوثيقة الأساسية الموضحة لحقوق الحاكم والمحكوم، وطريقة الفصل بين السلطات، وهو الذي يشرح نوعية الحكم وفلسفته، وعليه اذا كانت هذه الوثيقة تنص على أن الشريعة الاسلامية هي مصدر القوانين وأن أي قانون يخالف الشريعة لا يعتد به، فما المشكلة في هذا الدستور، ولماذا التشكيك فيه؟.
ومن المؤكد أن مسودة الدستور الصومالي لا يوجد فيها مما يخالف الشريعة الإسلامية، وليس هناك ما يدعوا إلى التشكيك فيه غير أن بعض الدعاة في الصومال لم يتجاوز حتى الآن مشكلة العموميات في التعامل مع الأمور االسياسية وبناء الدولة؛ لأن البعض منهم لا يفرق بين الواقع والخيال مما جعلهم في كل واد يهيمون، ويكثرون التنقل بين المدارس الفقهية، ولم ترسو سفينتهم بعد، وقد أثر هذا مكانتهم الاعتبارية في هذا العصر الذي تعددت فيه المنابر ولم يعد منبر الجمعة هو الوحيد الذي تنطلق منه التوجيهات، وعليه تساوى فيه العالِم والرويبضة.
وختاما: أرجو ألا تفقد وظيفة الدعوة مكانتها الشريفة لكثرة الوقوع في الأخطاء العلمية حتى لا تهبط مكانة الدعوة إلى الدعاية السياسية والترويج للأشخاص، كما هو واضح من تصرفات بعض المتحمسين.
لقد كانت رسالة الاسلام رسالة تحرر للإنسان من القمع والاضطهاد والاستغلال (متى استعبدتم الناس وقد ولدت أمهاتهم أحرارا)، وعلى الداعية أن يقف مع الحق وألا ينساق إلى الفهم الماضوي للطاعة، في عصر تنحصر فيه الطاعة ما يحدده الدستور، مهما كان موقفه من الحاكم حبا أو كرها!، هذا هو العقد الذي بينه وبين شعبه
Post Views: 18