في وقت قريب، كنتُ ضمن ورشةٍ في كتابةِ منهجٍ من مناهج التعليم في الصومال، وأثير في ثنایا الجلسات، مسالةَ اختيار الألوان، واختلاف دلالاتھا الرمزیة المعتادة في افهامنا الفطرية، وإلى المعاني والصفات المضافة إليها والمُحددة لها، والتي مسخت فیھا سحر وجمال معاني الألوان. فبعد أن كان قوس القزح أحد أجمل وأبدع الإبداعات في فن الرسم الوجودي وھبة الله للحیاة، أصبحت لدینا حساسية من المعانى الجديدة التي یمكن أن تفضي إليها درجة ألوانه و دلالاتها الرمزية، فكنا في حوار مُربك مع فهومنا الفطرية القديمة وتفسیراتنا السابقة، وما ألحق إليها من دلالات ومعطيات جديدة باهتة وشاذة عن طبيعة هذه الألوان وفطريتها الأصلية، والتي جعلت اختیاراتنا ما بین إقدام وإحجام، ونحن في تساؤل “مُقلق” عن مستقبل البشریة عموماً وعن مستقبل الصومال خصوصاً مع هذه الموجة العالمية الجديدة الجارفة للمجتمعات نحو السّوائية الشذوذية وعولمتها جغرافياً وثقافياً، وذلك بتعميم التبنّي لفلسفة الجندر عالمياً. وھذا التساؤل عن هذه المخاطر لا یدفعه فقط الوازع الديني بل ولا ما يقتضيه أيضا الباعث الأمني القومي والتربوي والوجودي.
وقبل كل شيء، فإن الصومال مثل بقية المجتمعات البشریة المُعافاة والسّويّة، تحدد أدوار الرجال والنساء اعتماداً على الفروق البیولوجیة الفطریة، وذلك ما تُعارضه “فلسفة الطمس” التي ترى الأدوار المنوطة بالرجل والمرأة، والفروق القائمة بینھما حسب التصورات والأفكار المتعلقة بنظرة الذكر لنفسه و نظرة الأنثى لنفسھا لا أزيد من دلك، وأما ما دون ذلك، فما ھي إلّا قوالب یصنعھا المجتمع لكلا الجنسين، وتلك القوالب هي التي تعیق نمو ھویة الفرد الذاتیة، وتجعله رھینة أدوار حُدِّدَت له اجتماعيا بدون اختيارٍ ورغبةٍ منه.
وخطورة ھذه الفكرة تكمن في تحولاتھا المفتوحة على مصراعیھا وبدون كوابح، كما يُرادُ لها، وتغیّراتھا اللامحدودة التي تتصادم مع السیاق الحضاري والاجتماعي والثقافي والدیني لكافة المجتمعات البشرية، فإنّ هذه السّوائية الشذوذية تُؤسسُ تحت بند الحقوق، لتصبح إجبارية التنفيد على “الجمیع في أي زَمْكانٍ كان وذلك بالھویة الجندریة التي یریدھا الفرد لا المجتمع”، وتستحدث بذلك سياسات لتوحيد الذوق العام للمجتمعات، واعتناق قيم الّلاقیم الجديدة وعولمتها، واعتبار أي رفض أو أي محاولة للخروج عن هذه الأطر العامة والقوالب الجديدة التي ترسمها الفلسفة الجديدة، رفضا وخروجاً عن هذه القيم الجديدة أو بالأحرى هذا الغزو الجديد، المُعزّز بترغيب المال وترهيب القانون. ولا شك أن رياح هذا الغزو قد وصلت إلينا (إلى الصومال)، ولكنّ السؤال أو التساؤل هو: ھل يمكن لنا أن نتعاطى نحن (الصوماليون) مع هذا التحدي الجديد بطريقة ذكية وذلك بتصحيح ذواتنا أفراداً ومجتمعاً، واصلاح بيتنا من الداخل، سداً للمنافذ التي تدخل عنها تلك التاثيرات السلبية، بدون رفض أي جديد نافع؟
ولا شك في وصول رياح تسويق تلك الفلسفة إلى الصومال، وإنْ بطريقة ناعمة، لأن ما یبدأ في الغرب یجد طریقه غالباً إلى الشرق، فالمجتمعات التي تتبنى اليوم ھذه الفلسفة، كانت تُحرّم وتُجرِّم ھذه المطالب باسم الكتاب المقدس وبسلاح القانون قبل فترة زمنیة ليست بطويلة، فلیس من المستبعد أن تجد ھذه الفخاخ طریقھا إلینا، بل يمكن القول أنها قد وصلت إلينا تتحسس طريها وإنْ بطريقة حَيِيَةٍ، خصوصاً مع وجود ورقة الدعم المالي التي من المحتمل جداً أن تُستخدم كعامل ضغط لتمريرها.
لكنّ نجاح أوعدم نجاح ھذه الفلسفة في واقعنا يعتمد على كیفیة رؤیة المجتمع للمشكلة، فإذا كانت رؤیته لا تتعدى: الاستغراب والاستنكار والحروب الكلامیة، وطرح النظرة الدینیة مقابلها وإطلاق التحذیرات ضد هذا الموضوع، فإن ذلك لا یتجاوز تأجیج المشاعر، وإشعال غلیان الغضب والاشمئزاز المؤقت، ومع مرور الزمن تعتاد آذان الناس سماع ذلك فتخفّ حماس النّفرة كما تقل حدة النفور عن هذه الفلسفة.
وأما الرؤیة التي يمكن أن تعرقل هذه الفلسفة الغازية الجديدة، فھي تلك الرؤية التي تعترف بأن الحدود التي تفصل بین عوالم الیوم، ھي حدود شفافة ورقيقة وإن شئتَ فقل ضعيفة، وتستبق ھذه الأجندة إلى واقعنا بطريقة ذكية وذلك بفتح حوارات ونقاشات واسعة ومستمرة، یتم فیھا إعادة تعريف المرأة والرجل طبيعياً والمیول الجنسیة لكليهما والدور الاجتماعي لهما والشكل الأسلم للأسرة، وذلك بمنطلق دیني، وعلمي، وثقافي، ونفسي، ومعالجة كل ھذه المفاھیم لما يخدم المقصد النهائي، وذلك بالاقتراب منھا، وھذا الاقتراب لا یعني قبولھا، وإنما تفكیكھا بحليلها وتفنیدھا بتركيبها من جديد وبنائها على قواعد صحيحة حتى نُعید ضبط الوعي الفطري، وحل إشكالیات الغموض المحتملة، والوصول بالمجتمع إلى بر الأمان ھو مُحمُّلٌ بالحقائق الطاردة لكل ما یتصادم مع فطرته ودینه.