هل كُتب على المفكر أن يُجامل المخالف؟ هل عليه ألا يقف على أرض صلبة من أفكار يعتنقها بصرف النظر عن صحتها أو غلطها؟ وهل تُفرض عليه المناهجُ المعاصرة أن يكون مذبذبا لا يقول الحقائق كما يراها، هل من التحضر والإنصاف المراوغة العلمية والمجاملة على حساب الحقائق والإيمان والقيم؟
أقرأ أحيانا لبعض *الكتَّاب اللامعين،* والفكِّرين المقتدرين، فأعجب كيف يستلُّون الكلام المعسول المنمَّقَ من بين فرث ودم؛ وبين غثٍّ وسمين، وبين صحيح وسقيم، فيأتي صافيا مستقيما؛ لأنهم كالنحلة التي تختار من الرحيق ألذُّها، ومن الزهور أعبقها، فيصورون للقراء بأن مصدر نقلهم مصدر غني، وبأن صاحبه أتى تحريرا منقطع النظير، وأنَّ كتابه حَوى مِن المسائل ما لا يُستغنى عنه، فيدفع بذلك قرّاءه إلى اقتناء الكتاب، ودفع أموال باهظة في سبيل حصوله، كأنَّه أخذ عهدا غليظا مِن الكاتب أن يُسوِّق كتابه كما يُسوِّق السِّمسار البضاعةَ، وكما يُزيِّن صاحبُ الدِّعاية منتجه.
وحينما يستقبل القارئ قراءة الكتاب كما يستقبل العَروس عروسه في ليلة زفافها، فينغمس في قراءته، ويداعب مع نهد صفحاته، ويجول مع ناظرتيه بين أسطره؛ فيصطدم بهول الغبن الذي أصابه، وأنه يستسمن ذا ورم، ويدرك بعد فوات الأوان أنَّ عروسه ما هي إلا عجوز شمطاء، تزورُّ عنها العيون ازورارا، ويتعافى عنها العقل إعافة الظمآن عن ماء زلال كان في أمسِّ الحاجة إليه لعلة في الماء.
وهذا القارئ المخدوع صار ضحية لقارئه الذي أعطاه ثقته، واختاره من بين القراء، وأعجم عِيدانه فَبَدا صاحب جدٍ واجتهاد، وصاحبَ خبرة عريقة ما في القراطيس من المعارف، وما ترميه الطابعات مِن المدونات، وما حوته الكَوَاغدُ من جديد العلوم، لكنَّه يذهب مَذهب مداهنة المنحرفين فكريا؛ لعلة التسامح والتحضر، ويرى عدم تسليط الضوء على أخطاء الكتَّاب؛ لعدم تنفير الناس عن إنتاجهم، بل يرى ستر هفواتهم وتجميل أخطائهم، وغض الطرف عن زلاتهم، ولو كانت تتعلق بأصول الدين وأركانه، ولو تورط الكاتب شركا محضا أودعا إليه، أو ألحد وزيَّن إلحاده لقرائه، أو جمع بين الإيمان والشرك، وبين السنة والبدعة، ولو سبَّ الصحابة وشتم عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعند هذا المفكر قاعدة ملخصها: ” خذ اللبَّ واستر الزَّلل” اجن الثِّمار وارم الأشواك” خذ الإيمان واعرض عن الكفر”، فيا ترى هل هذا المفكر ناصح لقرائه أم خادعهم؟ أهو رائد خير أم رائد شر؟ هل كل قرائه يحسنون الغوص في أعماق البحار ليستخرجوا منها الدرر الكامنة فيها؟ وهل لدى جميع متابعيه مضادات حيوية ضدَّ الفيروسات التي يُعرض عليهم جرعة إثر جرعة؟ أ كل القراء يستطيعون مقاومة الشبهات والشكوك التي تثيرها صيارفة الكتب، وعباقرة غزو العقول، والكتاب المحترفون؟ فلا يكتبون أصلا ولا يؤلفون إلا لتأثير الناس، ولترويج أفكارهم واعتقادهم، فمن دلَّ الناس على كتبهم بغرور، وانتخب ما فيها من الأماكن الجذابة، ثم عرضها على القراء على ثوب المدح والثاء، وأخفى ما فيها من الهنات والتعديات فهو مشارك بما ترتب عليها من شر وفساد، وضلال وزيغ، لأن الدال على الخير أو الشر كفاعله،
وشأنه كشأن من يعدد إيجابيات الخمر ليسوِّقها ويهمل ما فيها من الشر والغواية، ويوحي لقرائه بأن فيها منافع متعددة للناس، ويؤجل أو يموه ما فيها من إثم راجح، وشرٍ واضح. ومثله مثل مَن يروج الربا ويذكر ما فيها من المصالح، وأنها أخت البيع والتجارة.
فالخير بين الشرين لا يعتبر خيرا، والعسل في وسط سم مدفف لا يستحق الإشادة به، والمكان الطاهر بين نجاستين لا يؤمن بنجاسته.
هناك حكمة صومالية تقول: سئل الخُصْيَتان لماذا وجب غسلكما وأنتما لا تبولان ولا تغوطان؟ فأجابا: “الواقع بين المنجسين لا يؤمن بنجاسته”؛ لأنهما وقعا بين المبال والمغاط، فتأثرا بهما بالمجاورة.
*فالغرور بسبب الشب عن الطوق،* والاعتماد على المعرفة والثقافة القوية ما هي إلا خدعة لا حقيقة لها، فكم من علماء رسخت أقدامهم في مجال العلم، حتى صاروا أشهر من نار على علم، وشهد لهم الداني والقاصي، والصديق والعدوّ بتفوقهم، ونضوج مداركهم المعرفية والسلوكية، لكنهم لما تقحّموا في معاطب الشبهات، وفتحوا قلوبهم لتلقي ضربات محترفي التشكيك، واستقبلوا السهام التي لا تطيش من أصحاب الهوى فأشرب في قلوبهم الشبهات، وانهزموا تحت جحافل جنود الغزو الفكري؛ فتكلموا بلسانهم، وانبروا للدفاع بأفكارهم، حتى وصلوا إلى درك إمامة إبليس، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين.
والملحد عبد الله القصيميُّ – الذي أُثني، وقُرأ فضُله على منبر الحرم المكي، ومُدح شعرا سرى بين الخافقين – لم ينتكس على عقبيه، ولم ينكر وجود الجبار؛ إلا لقراءته لبعض كتاب الملاحدة من الشيوعين والبلشفيين؛ فتشرَّب سموم الشيوعيين كما يتشرب الاسفنج الماء.
و”عمران بن حطان” كان مغرورا بعلمه ومعرفته، وقد رَوى الحديث ورُي عنه، فتعرض لفتنة الخوارج، لتزوجه خارجية اسمها “جمرة” ليردها عن مذهبها؛ لكنها ذهبت به، حتى تحول إلى أشرس الخوارج ودعاتها، وحتى مدح “ابن ملجم” بقتله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بقوله:
يا ضربةً مِن كريم ما أراد بها إلا ليبلغَ مِن ذي العرشِ رضوانا
إني لأفكر فيه ثم أحسبه أوفى البرية عند الله مِيزانا
فليس من اللائق أن نجازف بأنفسنا، ونسوقها إلى التهلكة، وأن نقامر أعزَّ ما نملك، فإذا مُنِعنا أن نجالس جسديّاً مع الذين يتلاعبون بآيات الله ويستهزؤون بها؛ فكيف يليق أن نجالس معهم علميا، نقرأ كتباتهم، ونعكف عليها، ونُشجع الناس بدون تحفظ أن يَعُلّوا منها، أو يصدروا منها؛ بحجة ذريعة اقرأ كل ما يقع في يدك.
ثم إنَّ عُمرَ الإنسانِ محدود، ونحن في زمن انفجار المعلوماتية، فلا يمكن أن يقرأ الإنسان جميع ما ترميه الطابعات يوميا ولو رُزق بعمر نوح عليه السلام؛ فلذلك من الحكمة أن يَنتخبَ الانسان ما يقرأه بمعيار الفائدة والسلامة!
فمشكلة التمييع وعدم الجرأة بقول الحق وإن كان مرا فهي مشكلة أكثر مثقفي هذا الزمان؛ لأنهم خضعوا لمناهج التمييع، وقَبول الباطل في قَالب البحث المحايد منذ بداية رحلتهم العلمية، فجاءت الثمار يانعة لإنتاج مثقفين لا يعرفون إلا التذبذب في مجالات العلم، وليس لهم ذوق ورأي، ولا موقف وقاعدة صلبة، اختلط عندهم الحق بالباطل، والحرام بالحلال، والشر بالخير.
والمجون عندهم ثقافة والحضارة، والرقص والغناء عندهم من صميم الثقافة وإرث الأمة؛ والأصنام والتماثيل محترمة؛ ولذلك يعظمُّون الراقصين والراقصات في المجمعات المسلمة، ويشجعونهم بمدحهم وإطرائهم، وتسميتهم بنجوم المجتمع وعيونه، وتنويه بناء أماكن اللهو والرقص الفارهة، ويبنون من كل ريع أمكان للعبث واللعب، فإذا مات أحد الراقصين أو الراقصات تراهم يذرفون دموع الحزن لموته، ويكثرون العويل ويدعون الويل والثبور لرحيله، ويعتبرون بموته فاقرة عظيمة قصمت ظهر المجتمع، ونزلت في ساحته، فإذا مات أحد العلماء والمصلحون المشهورون فلا تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم صريف قلم.
وأما من مجال المصطلحات فعندهم “عقدة المصطلحات الشرعية” والحقائق اللغوية، فيكثرون دندنة حول مصطلحات التمييع والتسيب، ويطرحون بدائل من تسميات مضادة بما في الكتاب والسنة الصحيحة، من ألقاب وأسماء؛ لأنها صارت غصة في حلقومهم، فلا يحبذون استعمال مصطلح “الكافر” ويفضلون بدلا عنه لقب “الآخر”، أو “غير المسلم”، ويتذمرون عن مصطلح “البراء” ويستحدثون بدلا عنه لقب” الأخوة الإنسانية” وغيرها من المصطلحات التي تملأ صفحات كتب هؤلاء المفكرين، وحولها تتكون المفاهيم، وتتبلور الاتجاهات، وفي حلبتها تدور الصراعات، وعلى ضوئها يصنف الناس.
” فلو عدلنا عن هذه المصطلحات المحدثة، وعن هذه الأسماء العرفية، ورجعنا إلى الماضي وإلى الكلمات التي كان يعبر بها الناس عن هذه الحقائق في سهولة وبساط، وإلى ما كان ينطق به رجال العهد الأول والسلف الأقدمون، انحلت العقدة، وهان الخطب، واصطلح الناس” (ربانية لا رهبانية، ص8 ).
فالمفكر المذبذب لا يُكِّون فكرةً ناضجة، ولا يثير حماسة. والكاتب الذي يقدم رجلا ويؤخر الأخرى فلا يُفهم فكرة ولا يبلور موقفا. والمؤلف غير الحازم لا يعبر عن أحاسيسه الحقيقية، ومشاعره الصادقة، وانفعالاته النفسية، بل يمارس شيئا من نفاق الكتابة، ومجاملة القراء، وارضاء جهة ما؛ فَيلد فكرة ميّتة لا جدوى فيها، ويقيد ألفاظا باردة لا روح فيها.