لا أحد يجادل في أهميّة الورع، وفداحة فقده في المجتمع، ولا سيما المجتمع المسلم الذي يتقرّب إلى الله بالتزام أنواع الحلال وطيّبات الأرزاق، ولكن إذا التفتنا إلى تاريخ مجتمعنا الماضى والمعاصر نجد أنّ الورع مفقود، وإن تنوعت آليات كسب الحرام، وأكل أموال النّاس بالباطل، وتعددت أساليبها، فقبل بداية الدولة الحديثة، كانت العشائر تمارس النهب والسّلب فيما بينها، خاصة الرُّحل الذين يُمثلون غالبية المجتمع، وكانت الحرب سجالًا، وعبّروا عن ذلك بالشّعر، كقولهم في الإبل: Xalaal iyo xoog haddu xero galo midna kuma xumo. ، فلا يسوء بحال إذا دخل الحظيرة سواء بالحلال أو بالسّطو. وفي عام 1988م دخلت مطعمًا مكتظًا بالجالسين، وهم في انتظار أخبار هيئة الإذاعة البريطانيّة، قسم اللغة الصوماليّة. ومن بينهم مُسنّ يحكي ويصغي الحضورُ إلى حديثه، ومما سمعت منه ذلك اليوم مفتخرًا: أن أمّه ومعها مائة ناقة اغتنم في يوم واحد.
وعلماؤهم لم يكونوا أحسن حالا من العوام، إما بسبب تأثرهم بالبيئة والظلم العام، أو تكسّبهم بالعلم وتمييع النصوص والبحث عن الحيل الفقهية، ووثق الشّعب ذلك بقوله: Wadaad baa qiil uu ku bannaysto iyo qandi uu ku ritaba leh ، لا يفقد الشيخ قيلا يستحلّ به، ولا كيسا يأخذ به.
وبعد الاستقلال، اعتبروا الدولة ناقة، وتغنّوا ب: Aan maalno hasheena Maandeeq. ، أي فلنحلبْ ناقتنا مانديق. فهذه العبارة لها دلالتان، الدلالة الأولى دلالة إيجابية وهي اعتبار الدولة خادمة توفر خدمات كريمة للشعب، وتفيض عليه من خيراتها، وتقتلع جذور الجوع والفقر. أما الدّلالة الثانية فهي اعتبارها ناقة ينتفع بها الأقرب إليها، والأجدر بحلبها، وإذا ارتوى المحاطون بها حليبها فحينها يمكن أن يمدّوا يدهم إلى من يليهم، وهكذا دواليك. وفي الحالة الأخيرة يستحيل العدل والورع، وتُحْكِم القوّة والقرابة سيطرتها.
وفي الجانب الآخر ظلّ كثير من الرُّحل ينتقلون فرادى أو جماعات من البادية، إما لطلب العلم، أو البحث عن حياة كريمة، وينزلون على أحد أقاربهم في المدينة، ويوفر المضيف حسب إمكاناته المادية كل ما يحتاجه الضيف من معيشة، ومأوى، وملبس، ومصروفات التعليم، أو المساعدات المادية، إذا أراد مزاولة عمل خاص به، ولِتَتَابُع أعداد القادمين من البادية كان المضيف مضطرا أن يسعى لإيجاد أماكن أخرى لبعضهم، من بينها توفير وظيفة عمل من الأروقة الحكوميّة عبر تعبئة أعضاء العشيرة في الوزارات والوكالات، ثم تستمرّ الحالة، ويتحوّل ضيف أمس إلى مضيف يستقبل آخرين اليوم ويُشغلهم..إلخ. وهذا بالتأكيد يخلق تكتلات عشائريّة تستحوذ على الفرص في داخل المؤسسات الحكوميّة.
وكانت هذه الظاهرة قليلة في عهد الحكومات المدنيّة، ولكنّها توسعت في مرحلة سياد برّى، وصارت مألوفة أن يُرى وزارات أو وكالات أو مؤسسات حكومية يمثّل غالبية منتسبيها عشائر معيّنة.
وإثر انهيار الحكومة المركزيّة، وانتشار الحروب الأهليّة، زاد النّهب وأصبح سلب أموال النّاس معتادا، ومشجعًا -أحيانًا- من قبل أعيان العشائر وقيادات المليشيات، إما بالسكوت عنه مع القدرة على منعه، أو بالإيعاز إليه.
ولم تنج المؤسسات الخيرية باختلاف مستوياتها وتوجهاتها، من الاختلاس وسرقة أموال الإغاثة، بل استحل كثير من متنفذيها مساعدات المحتاجين والنازحين، وهبات المحسنين وبنوا منها فللًا ومساكن جميلة يتمتعون بها، أو ابتعثوا بها أهاليهم وأولادهم وأقربائهم، للتعليم في الخارج أو للهجرة إلى الدول الأوروبية، أو أسسوا بها مؤسسات تجارية عملاقة.
ومنذ عقد أول مؤتمر عشائري تصالحي عام؛ لإعادة كيان الدولة في جيبوتي، سنة 2000م، بدأ المال السياسي الحرام ينتشر ويتجذر ويأخذ أوجها متعددة، وأنماطا مختلفة، واعتاد الناس سماعه، أو مشاهدته، وألفوه أخذًا وعطاء، وكان هذا المال يتضاعف كلما تقترب فترة برلمانية ورآسية جديدة، ويطرح البرلمانيون- أحيانا- مشروع سحب الثقة من الحكومة، ليس لسبب ضعف أدائها، بل للحصول على رشوة من الحكومة، أو معارضة تسعى لاستبدالها.
وبعد مجيء حكومة Nabad iyo Nolol، أتت بمؤيدين ملأوا شبكات التواصل الاجتماعي ضجيجا ونقنقة، ويقال، والعهدة على القائل: إنهم يتحركون بريموت الدولار، حتى لو تنحنح أحد قادتها يستنبطون من نحنحته أكثر من معنى، وكناية، وبات اختلاس الأموال معهودًا لدى العاملين في المرافق الحكومية-وإن تباين مقدار اختلاسهم طبقا لعلو مرتبة الموظف، أو لقربه من مصادر الإيرادات وخزانة الدولة- ومسؤولي المؤسسات غير الربّحية.
والورع عندنا نظري- غالبا- كثيرا ما نسمع مواعظ بعض المشايخ في الورع سواء في المساجد، أو من الإذاعات والتلفزة، أو عبر كلمات إرشادية تُلقى من فينة لأخرى في التجمعات العامة، والخاصة، أما الواقع فهذا شان آخر؛ إذ يقول لسان حال المجتمع كُلْ ولا حرج، فنادرًا ما تجد من ينكر أخذ المال الحرام إنكارا حقيقيا عمليًا، وهذا ما جعلنا نخرج من بؤس إلى آخر، ومن محنة إلى أخرى، ومن حكومة ناهبة إلى أخرى أكثر نهبًا.
وأثناء زيارتي إلى مقدشو عام 2018م، عزمني صديقي المحامي على الإفطار، والتقينا قبيل الإفطار، واقترح أن نذهب إلى أحد المطاعم الساحلية، قلت: هذا المطعم بُني بالحرام، ويُشغّل ويُسيّر بالحرام، وأنت المحامي، ابن المدينة، أدرى مني، كيف ترضى أن نصوم يومًا كاملا لله سبحانه وتعالى، ونفطر بالحرام، قال لي: جُلّ المطاعم كذلك، أين نذهب إذن؟، الفارق في الكمية والنسبة المئوية فقط. ما قاله المحامي: جزء من الحقيقة، لأن الناس يستسهلون أكل المال الحرام، فشركات البناء تتعاقد مع الرجل وهي تعرف أن ماله حرام، وصاحب المطعم يبيع طعامه لزبائن يعرفهم يقينا أن أموالهم حرام، وصاحب الدكان يستخدم كل الحيل ليخدع البائع ويربح بالحرام، وحتى مؤسسات التّعليم لم تسلم من التزوير، والتلاعب في ساعات الدراسة، من أجل الكسب السريع والضحك على الأبرياء، وهلم جرا.
وحكى لي صديقي أنه التقى ذات مرة بمسلم أبيض جديد، فسأل عن بلده، فاخبره أنّه من الصومال، واستفسر عن عدد المسلمين فيه، وأجاب: كل الشّعب مسلم، وسأل عن أعراق المجتمع، فرد عليه بأنه عرق واحد، وسأل عن عدد طوائفه، فأجاب كل المجتمع سُنّي، ثم قال هل يقيمون الصلوات في المساجد جماعة، قال له: نعم، ثم سكت هُنَيْهَة، وقال: أظن أن الله لا يقبل صلاتكم؛ لأنكم في كوارث متتالية منذ ثلاثة عقود، وتدعون ربكم جماعيًا ليلًا ونهارًا !! لو قبل الله منكم صلاة واحدة ودعاء واحدًا لأفرج عنكم الكربة، أو أرشدكم إلى طريقها وساعدكم على حلّها.
فكلام هذا الأخ المسلم البرئ إن لم يكن كلُّه دقيقًا، فليس كلّه خطأ؛ لأن لقمة الحلال مفتاح قبول الدعاء، وأن القليل الطيب أجدى وأنفع من الخبيث الكثير. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا…» صحيح مسلم (ج2، ص703)
ويقول المثل الصومالي: dhar magaalo waa la xiran karaa, laakiin waa”
adag tahay sida dhal magaalo lagu noqdo” يمكنك لبس ملابس المدينة، ولكن ليس من السّهل أن تتطبّع بطبائع أهلها، وتسلك سلوك أبنائها.. مثله نقول: يمكنك أن تطلق لحية كثة، أو تلبس جلبايا كبيرا، ولكن هذا لا يجعلك ورعًا، طالما سلوكك يناقض ذلك، و ينطبق كذلك على كبار الدولة، يمكنهم أن يلبسوا بدلات أنيقة ويكرروا شعارات براقة، ويرفعوا راية محاربة الفساد، بيد أنّ هذا لا يقرّ لهم بالورع، مادام سلوكهم لا يشهد لهم بذلك.
….وأخيرًا أقول: نحن الصوماليين مسلمون، والإسلام يمنعنا أكل المال الحرام، ويصد عنّا كل طرقه، ولدينا تجربة تاريخية مريرة تخالف عما جاء به الإسلام في هذا الصدد، وتثبت تعاطي المجتمع الواسع للمال الحرام، هل آن الأوان ولو لمرة واحدة، أن نتصف بالمثل العربي القائل: “تجوع الحُرّة ولا تأكل ثديها”، ونتوقف عن أخذه، ونجعل سبّة ووصمة عار في جبين أصحابه، لعلّ الله يقبل منّا الدعاء ويعيد لحمتنا، ويمنّ علينا الأمن والاستقرار، ويقودنا إلى سبل الخير والتقدم.