في علم إدارة الأزمات ما يسمى بالوفرة الوهمية، وهو تكنيك علمي نفس إعلامي تلجأ إليه القادة لبث الاطمئنان ورفع المعنويات، ومضمونه “الظهور الكاذب بالسيطرة على الأزمة وتوافر الإمكانات اللازمة لتجاوزها، وسير الأمور على طبيعتها، من خلال مسرحيات مضللة للرأي العام؛ حتى لا تنهار المعنويات من هول الأزمة”
فمن المقبول اللجوء إلى مثل ذلك التكنيك عند اللزوم، لكن مكمن الخطر في اتخاذه نهجا متّبعا في كل جزئية من وظائف الدولة كسياسة عامة.
ومن مظاهر الوفرة الوهمية وتضيل الرأي العام المحلي والعالمي:
– الاهتمام بالمؤتمرات والاجتماعات واللقاءات والحفلات والمكالمات المطوّلة المتوالية والمتوالدة، فالظهور اليومي فيها لا يعني إنجازا بل هو هروب إلى الأمام وانشغال بالترّاهات الديكورية عن العمل الحقيقي.
– الانشغال بالخطط (ما يسمونه tubo) عن العمل، مع وضع محتوى ديكوري لا عمل وراءه (يمكن الاطلاع على الخطط وتحليل مضامينها).
– الانسياب وراء الوظائف الديكورية مثل تأثيث المكاتب وتزيين جدران لا يتم بين زواياها إنجاز، وفرض اختبارات مركزية لا يسبقها شيء من الوظيفة التعليمية، وتعيين مسئوليات لا يقصد من ورائها عمل.
– الانهماك بالخطب الرنّانة المتكلّفة والظهور الإعلامي المكثّف، واستئجار الأبواق الإعلامية والكتائب الإلكترونية، وحشد النساء والأطفال الفقراء للظهور بمظهر المحبوب الكاذب.
– الجولات والسفريات المكوكية التى لا تنقطع؛ لأن فيها متعة السفر، ومكسب في بدلات السفر، وهروب من روتين العمل، وسياحة على حساب الدولة، وتخليص لأمور خاصة، والظهور بمظهر كاذب يوحي بأن المسئول يشتغل في الأرض وفي السماء وفي الداخل والخارج.
فالانشغال بالخطط (Tubo) خاصة على مستوى مجلس الوزراء، وهو مستوى سياسي لا علاقة له بالتخطيط، واتخاذ مناقشة تلك الخطط بندا أساسيا في جلسات الحكومة كلها، إن هذا يخالف أدبيات العمل الحكومي العلمية، ويؤشّر إلى أن قيادة الحكومة دون المستوى السياسي الذي تشغله، وأن عقليتها مبرمجة بمستويات عمل دنيا.
إن مجلس الوزراء مجلس سيادي مختص بصنع السياسة العامة للدولة التى تستند إلى الرؤية العامة لرئاسة الجمهورية، ولا علاقة له بالتخطيط العام الذي هو من اختصاص المؤسسات العامة المعنية بالوظائف العامة.
والوزارات مجرد سكرتاريات للمجلس، بل يطلق عليها مسمى السكرتارية في أكثر دول العام تقدما مثل أمريكا، والوزارة ماسكة فقط لملف وظيفة أو مجموعة وظائف عامة للدولة تشتغل فيها مؤسسات عامة تتيع الوزارة وظيفيا ومستقلة عنها إداريا وماليا، ومهمة الوزارة في المجلس هي بلورة الرؤية الحاكمة للوظيفة أو الوظائف العامة الخاصة بها وتقديمها للمجلس لإنشاء المؤسسات العامة الوظيفية في المجال المعنيّ، ثم مسك ملف تلك المؤسسات في المجلس والتنسيق بينها وبين المجلس، وليست الوزرات مكانا للانشغال بالوظائف العامة لدولة.
وطالما تحتجز الوزرات الوظائف العامة للدولة طمعا في السلطة وفي إدارة ميزانيتها فقط، وتحول دون قيام المؤسسات، فإن الدولة التى نحلم بها لا تزال تبتعد.
والطامة الكبرى عندما يلعب مكتب رئيس الوزراء اللعبة نفسها ويتحايل للتسلّط على اختصاصات الوزارات، ويشكّل من عنده مكاتب خاصة بعدد الوزارات، يقال إنها إسنادية لكنها في الحقيقة تسلّط على اختصاصات الوزارات والمؤسسات العامة للدولة ( يمكن الرجوع إلى خطابات استقالة الوزراء والمسئولين الآخرين، وإلى الخطاب الفاضح للوزيرة مريم قاسم على وجه الخصوص).
إن تحايل مكتب الوزير الأول على وظائف الوزارات، وتسلّط الوزارات على مهام المؤسسات العامة هو العامل الأول وراء ضياع الوظائف العامة للدولة، فهذا التحايل والتسلط هو في الأصل مظنة فساد وقرينة سرقات كبرى تتم، وحتى إذا حسنت النية فإنه يستحيل إنجاز مهام دولة بهذا الشكل المشوّه والمشبوه؛ وهو ما يجعل القيادات في كلا الحالتين تلجأ إلى الوفرة الوهمية والتظاهر الكاذب بالإنجاز لتضليل الرأي العام بينما لا شيء يتم في أرض الواقع.
كل هذه الحيل من تطبيقات الوفرة الوهمية التى هي في الأصل علاج مؤقت لحالات أزمة نادرة، ولكن يتخذها الضعفاء والفاسدون نهجا للعمل وسياسية عامة للدولة.