عاد إلى البيت في وقت متأخر من الليل متعبا مجهدا جريا وراء حطام من السراب، يتراءى له لمعانه، يحسبه الكادح الظمآن ماء، وكلّما ظنّ انه دنا منه خطوة، اكتشف أنه لم يزدد منه إلا بعدا، وهو متيقن أنه لن يصل إليه أبدا، ولكن ذلك لا يمنعه من البحث عنه أبدًا. كان ليلا شتويا ماطرًا من ليالي شتاء لندن، يخيل إليّ أن سماء لندن قد شاهدت آلاف السنين شقاء الانسان واضطرابه وضعفه وقلة حيلته، فآلمها ذلك، فتبكي عليه شفقة ورأفة، وما تلك السحب السوداء المتراكمة فوقها في أكثر الأوقات إلا تعبيرا عن ثوب هذا الحداد الأبدي الذي قطعته على نفسها.
دخل البيت، وأغلق الباب وراءه، هل قلت بيتا؟! أستغفر الله ! وإنما دلف الى طلل من الأطلال، ما عفت رسومه، ولا اندرست آثاره، كمثل الطلل الذي كان يبكيه الشعراء الجاهليون، ولكن البيت كل بيت يتحول إلى طلل، إذا فارقه الأحباب، وإن لم تتهدم أركانه، وتتساقط سقفه، وتتعاوره الرياح. نعم، يكون البيت بيتا بما يضطرب في أرجائه من الحياة، وبما يشعه في نفسك من الحب والأنس، فإذا فقد هذا الحب وهذا الأنس، فلا معنى لإطلاقه بيتا إلا على سبيل التجوز والادّعاء، واِلّا فما فائدة الجسم اذا فقد روحه؟! وما جدوى البيت اذا بان عنه الحبيب؟! بكي على الطلل، وتذكر أم محمد وأفلاذ الأكباد، وحيّا الطلل تحية الملك الضليل:
أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الطَلَلُ البالي ..وَهَل يَعِمَن مَن كانَ في العُصُرِ الخالي
وَهَل يَعِمَن إِلّا سَعيدٌ مُخَلَّدٌ .. قَليلُ الهُمومِ ما يَبيتُ بِأَوجالِ
وَهَل يَعِمَن مَن كانَ أَحدَثُ عَهدِهِ .. ثَلاثينَ شَهراً في ثَلاثَةِ أَحوالِ
لله درّك أمير الشعراء ما أصدقك! وكيف ينعم صاحب طلل آخر عهده بالنعيم (ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال!)
آه! طلل مخيف، ظلام دامس، سكون قاتل، برد قارس، لا حركة ولا ضياء ولا رائحة، نعم لا رائحة زكية ولا غير زكية إلا رائحة البرد والجدران والظلام، وقد كان من قبل تداعب مناخره روائح المسك تفوح من وراء الباب، وهو يصعد السلّم، فينتشي طربا وشوقا، مردّدا مع المنخل اليشكري:
فإذا انتشيت فإنني .. رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني … رب الشويهة والبعير
وأحبّها وتحبُّني .. ويحبّ ناقتها بعيري
تحسست أصابعه المرتعدة من البرد زرّ الإضاءة، فغمر البيت نور خفف عنه شيئا من الوحشة التي يحسها، فالنور أنس، والظلام وحشة، والله نور السموات والارض. ثم دلف إلى المدفاة فأدار الزر على آخره؛ بحثا عن تدفئة سريعة، ولكن ماذا يغني دفء الجسم إذا كانت الروح مضطربة منهكة متعبة باردة؟! لا يهدئ من روعها تشغيل زر حديدي، ولا تدفئها إلا يد حنون، وقلب محب، فمهما منحتك المدفاة من دفء مصطنع، فإن ذاك لا يساوي معشار ما يشعره الانسان من دفء تمنحه كلمة واحدة صادرة من روح محبة.
صلي العشاء متثاقلا، كمن يضع عن عاتقه دينا ثقيلا ماطل في أدائه، لا ابتهال فيها، ولا مناجاة، ولا خشوع، وليس فيها هذه الراحة النفسية التي يشعر بها العابد الذي يهرع الى الصلاة إذا حزبه أمر، فيحس بعدها وفي اثناءها السكينة والطمأنينة، وإنما يخرج من صلاته كما دخلها متضايقا متعبا، لا يفكّر الا ان يأوي الى فراشه، فيترامي على سريره، وكأنه قادم من سفر بعيد، قضى فيه ليله ونهاره.
ومع هذا التعب فانه لا يطيب له النوم إلا بعد محادثة قصيرة أو طويلة مع شيخه أبي حيان التوحيدي، فيسمعه يقول في افتتاح حديثه “نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين، ووصل إلى خيرات الآخرة من كان من الزاهدين، وظفر بالفوز والنعيم من قطع طمعه من الخلق أجمعي” تهزّه هذه الكلمات في أعماقه، وكاد النوم يطير من آماقه، فيستوقفه عن الاسترسال، ويتظاهر بالأوجاع، فيعتذر لشيخه بلطف، ويطلب منه ملحة الوداع، فيقول شيخنا أبو حيان: “قال أبو دعلج: قال المهديّ: بايع، قلت: أبايعكم علام؟ قال: على ما بويع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم صفّين. قال كردين أبو سيّار المسمعيّ: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يدرك صفّين، إنما كانت صفّين بين عليّ ومعاوية. فقال درست بن رباط الفقيميّ أبو شعيب: قد علم الأمير هذا، ولكن أحبّ التسهيل على الناس”.
شكر شيخه أبا حيّان، وودّعه على عجل، وعلى أمل لقاء قريب. سحب لحافه وغطي به جسده كله ورأسه الا بقدر ما يسمح له التنفس، غمض عينيه ولكن ذهنه لا يزال مشغولا في استعادة تلك الحكم الإلهية التي سمعها من شيخه أبي حيّان، شعر كأنها وصية خالدة موجزة للتائهين الغارقين في موجات الحياة المتلاطمة.