اتخذ “لندن” مقرًا ومسكناً له، فيها باض وعشعش، ويتسكع في طرقاتها، ويأوي إلى باراتها، ويصطاد من مخمراتها، ويبسط حبائله على الأجساد النعومة، ويرغم الذكور ببسط أكفهم فوق حواجبهم؛ ليتأملوا الدمية الفاتنة، وليمعنوا النظر في الغانية الساحرة، ويبسط عرش سلطانه على بحرها، وهناك يصدر أوامره إلى جنوده التي لا تخلو منها شبرة من الأرض، بل لهم قوّة على سطو القلوب، ونفت الإيحاءات فيها، والنفاذ إليها من خلال مسام جسدها، وتسلل إلى مراكز قوتها، وتدور مع الدم حيث دار، فمَن أحكم منهم قبضته على هذه المراكز وتصرف فيها كيف شاء يحظى عند الوالد “إبليس” شارات الشرف، ويترقى على درجات العلا، ويحتضنه إيذانا على خطورته ، ويقبّله تشجيعا له على الفتنة، ويرفع درجته إلى صفوف الماهرين بالتضليل.
وكان مسكن “الوالد” في العالم العلوي قبل أن ينتقل إلى “لندن” ويهبط عليها، ولم تضق عليه الأرض بما رحبت حتى يختارها من دون الأرضين؛ ولكنه كان يمارس في العالم العلوي مهنة حَذقها ، قطعها عهدا على نفسه أن يمارسها في الأرض باحترافية فائقة، ومهارة عالية، ودقة متناهية، وتصفير الناجين من حباله، والفارين من كيده، وقسم أمام الله أن يكثر حزبه، وينفخ أتباعه، ويجعلهم سادة العالم، وساسة الدنيا، وقادة المجتمعات، بالقوة والنار أحيانا، وبالإغراء والشهوات والنزوات تارة أخرى، والاستمالة بالرئاسة والمناصب طورا، والتهديد بالإسقاط والتهميش حينا. فمهنته في العالم العلوي أكسبته خبرة طويلة، وعلمته المداخل في ابن آدم المؤثرة، وأفادته جوانب الضعف منه، وثُلم ثغراته، وشرخ حائطه، جربهم بداهية فأصمت، ورماهم بسهامه فصادفت منهم مقتلا، لبس لهم ثوب الناصح الناسك فانخدعوا له، وأقسم لهم بالله جهد أيمانه فصدقوا بمينه، فتورطوا بالمعرة بحسن نياتهم، وابتلعوا السم على نية العلاج، واقترفوا الذنب بحجة المصلحة وطول الخلود، وانعكست النتيجة، ومُرَّت الثمار، وعظمت البلوى، وعري الجسد، وبدت السوءات، كما عري جسد الحسناوات في “لندن” وظهرت سوءاتهن ومفاتنهن في المسكن الجديد ، وبعد العري بحثت الحسناء الأولى بديلا ولم تجد إلا أوراق الطبيعة فتجملت بها، والغانية في “لندن” وجدت جميع أنواع اللباس فَعَافتها، واختَارت العُري عن الحشمة، والتبرج عن التستر.
والغانية الأولى لم تجد بدًا من ورقة الأشجار فتزينت بها، والدمية الثانية اللندنية تعرَّت اختيارا، وتنازلت عن ريشِها وزينتِها إمعانا في الفتنة.
الجميلة الأولى كانت مضطرة خالية عن عيون الإنسي غير حليلها؛ إذ لم يكن هناك سواهما، إذن لم يكن عليها ضير، بينما البهيَّة الثانية تفلسفت وترى أنها متحضرة بعريها، مدينَّة بألوانها الزاهية، ومكياجها الفاتن، فجعلت نفسها دمية متعددة الألوان، تتبخر في مشيتها، وتهتف الذكور من بعيد، وتغريهم من قريب، وتعثوا غوايتها يمنة ويسرة!
صار جسدها بضاعة من أرخص البضائع، يجمل للرجال، وتتجرع آلاما لأجلهم، وتنفق ملايين لإرضائهم، وتجعل جسمها لأجل الذكور مسرحا للعمليات التجميلية، والجراحات المتتالية، أحيانا يُنحت أنفها حتى يدبب تدبيبا، وطورا يُحشى في ثديها السيلكون لتوسعته، وتكبير قطره، وتتعاور الإبر الحادة على شفاهها لنفخها وتكبيرها، وتشفط دهون بطنها جريا وراء الرشاقة والهيف، وتفعم الدهون في مؤخرتها لتكبيرها.
وتفعل الأنثى اللندنية ومثيلاتها ذلك كله لاصطياد الذكور، والتفنن بمغناطيسها ولفت أنظار الرجال إليها!