تلميذي جلس في مقعده وجعل يحذق في عيني وأنا مستمر في شرح مفرداتي الغريبة التي تمتلىء بها لغة الضاد وبالكاد قاطعني قائلا: أنت دائما تأتي بالغريب وكأنك لا تعرف القريب أم إنك يا أستاذي شخص يستوحش الأُنس وينسى القرين والقريب ويحنُّ إلى كل معنى غريب.
قلت له: صه فلنا حديث عما قريب نقطع به وحشة الغربة ونأنس به كل غريب.
صمت صمتا لا يبدو منه اقتناع وطأطأ رأسه كأنه حزين قائلا في خفوت وبصوت ليس له رنين : كل الناس تجود شيئا واحدا وهو إسكاتي بدون إقناع… حسنا يا أستاذي أنت الآخر لك مكان فوق رأسي.
حزنت وكاد كياني كله يذوب، وارتعشت مفاصلي كأن ملكا مهيبا توعدني بالويل والثبور وحلف بقطع وريدي وكل شرف موهوب، ولم أستطع أن أفارق مكاني ولا أن أحل عقدة لساني وطأطأت الرأس أنا الآخر كأن عاصفة الرعد أذهبت شعوري وصدت عن السماع آذاني أو كأن ملك الغابة برك أمامي وزأر زئير الجوع والتلذذ لدمي ولحمي فتعرق جسمي وخارت قواي أما بلاغتي فكبر أربعا لوفاتها واقرأ على الحي نعيها وتأبينها.
تلك كانت عاصفة صغيري التلميذ وحجته البليغة بدون تكلف وكأنه قول جهيزة التي قطعت قول كل خطيب .
ورضوخا لأمره قمت بقطع الحصة وانتدبت لها غيري وقلت لهذا التلميذ هيا بنا يا بني نقوم بجولة نفتح بها القلب والقلعة الحصينة ونزيل الرتابة القاتلة عنك ونجيب عن السؤلة.
تلميذي : هيا بنا أستاذي فيك دائما أنسي وعلاج ما في نفسي وحل عقدي وأجوبة سناني ولساني وفيك أجد رحابة صدر ولو أوجعتك مدى الدهر بسياط ربشي وخناجر شغبي.
أنا: يا بني ما لك لا تتقن الأدب كما تتقن العتب فتزيل بذلك نقص الحب الذي تكنه لك صدورنا وتجسده دائما إرادتنا.
تلميذي: وممن أقتدي حتى تهتدي جوارحي لما تريده وتنضبط نفسي ويهدأ قلبي ويرتاح ضميري و أكون أليق بأساتذتي يا أستاذي.
أنا: من أمك، نبع الحنان، وينبوع الرحمة، والعطف، ومدرسة التربية، ومعهد الحضانة، ومهد العلوم التي هي القدوة المثلى لأمثالك من العباقرة الصغار ألم يقل الشاعر قديما يا بني : الأم مدرسة إذا أعددتها * أعددت شعبا طيب الأعراق.
الأم أستاذ الأساتذة الألى * ملأت مآثرهم مدى الآفاق.
الأم يا صغيري مصنع العباقرة، ومهد العمالقة، بتهنيدة منها ينعدل كل ميزان، وبنظرة حنان منها تفيض مياه الرحمة في الوجدان.
الأم يا صغيري، في قلبها الحنان وتحت قدميها الجنان فهلّا تربيت بين الحنان والجنان؟! هلا رقاك إلى صفاء الأخلاق صفو ودادها لك؟ ألم ترضعك البر مع حليب ضرعها المغذي للمخ والعقل والقلب؟!
تلميذي: آآه يا أستاذي آه. يا أستاذي لماذا أراك في بعض الأحيان تغض الطرف عن الواقع وتنسى الحال والحاضر؟.
أنا : مهلا يا بني. ماهذا الواقع الذي أنساه؟.
تلميذي : الأم نِعم الرفيق في درب النبوغ ، نعم هذا صحيح فهي الصديق الوفي في كل معمعة وهي ينبوع الرأفة وموئل الصغار والكبار من الأبناء. هي صافية صفاء الماء الآتي من السماء فقلبها مُلِئ حنانا وعقلها يكتنز الحلول والحلول لتواجه به مخاطر الحياة ولتحافظ على بنيها من الضياع ولكن يا أستاذي….. وآه وألف آه من لكن.
الواقع الذي تنساه يا أستاذي أن عبء الحياة كلها جثم على صدرها وصدها عن الخلوة ببنيها ومتابعة الشأن عن قرب فما تبنيه بجلسة العشاء يمحيه عن الذاكرة الصباح ومخالطة الأشرار في كل زاوية في الصباح أو في المساء أو في الجُمع وأيام العطل، فليس هناك صديق آخر يعول عليه لصقل النفس أو زرع القيم أو بناء صرح الأخلاق يا أستاذي.
كيف للأم التي تفكر في المطبخ وفيما يطبخ فيه وفي العائلة الكبيرة والصغيرة ، في الحضر وفي الوبر في أمها وأبيها وبنتها وبنيها، في زوجها وعمها كيف لها أن تجلس ساعات طوال تدلعنا مرة وتلعب معنا مرة وتزرع فينا القيم والأخلاق مرة فتنتهرنا بسوء الأدب مرة وتقبِّلنا بحسنه مرة . ## يا أستاذي خلاصة الكلام هو أن الأمهات لديهن نبع حنان لا ينضب وجنان لا تنتهي ولكن المشكلة هي أنهن يلعبن كل الأدوار وهذا لا يطيقه أي إنسان حتى ولو قدم من العالم الملائكي أو زارنا من جنان الله.
أنا : صدقت يا ولدي وحقا أنت أكبر مما تصورت وأحسن مما اعتقدت وطلاقة لسانك وتوصيفك للواقع يقولان لي بأنك كجدك عبدالله بن العباس الذي كان في صغره فتى الكهول وله لسان سؤول وقلب عقول كما وصفه به الفاروق، أو كما يقال: إنما المرء بأصغريه لسانه وعقله فإن حازها جاز له الكلام وبهذا صور أحد الشعراء قائلا :
لسان الفتي نصف ونصف فؤاده * فلم يبق إلا صورة اللحم والدم.
تلميذي مقاطعا : يا أستاذ يا أستاذ.
أنا: ماذا هناك لتصرخ يا كثير الإزعاج؟!
تلميذي قهقه قائلا : ليس هناك شيء يا أعز أساتذتي ولكن كنت قبل قليل تقول لي لماذا لا تتأدب والآن تمدحني بمديح لا أحلم به حتى!.
أنا: قهقهت وأنا أداعب رأسه قائلا : يا بني أقنعني قولك في أمهاتنا فلقد أنصفت كل الأمهات وأثق أنك بار بأمك ومن برَّ أمه لا خوف عليه ليكون شقيا في الحياة.
تلميذي: لماذا يا أستاذي؟.
أنا : يا بني إن القرءان يقول بأن من رزق ببر أمه لا يشقى كما أنه لا يتجبر قال تعالى: (وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا) فبرك بأمك كفيل أن يبعدك عن الشقاء والجبروت وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يبر أمه حليمة السعدية برا بها ووفاء لأمه السيدة آمنة بنت وهب فيجلسها بطرف ثوبه ويعطيها من المال ما تحتاجه وأنت تعرف أن حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم أكبر الأبرار وأفضلهم فمن بر أمه فقد سار في درب الأبرار الكبار من أنبياء الرحمن ورسله.
تلميذي : يا أستاذي نسيت أن تقول لي، لماذا تكثر الكلمات الغريبة في درسك اللغوي؟.
أنا : يا بني عندما تتعلم لغة ما، كل كلمة جديدة هي غريبة بالنسبة إليك كونك جديدا عليها فغربة الكلمات ناتجة عن كون الشخص غريبا عن تلك اللغة أو هذه، ولكن أنت لست جديدا ولا غريبا بالنسبة إلى اللغة العربية ولا أصدقاؤك أيضا فهنا نحاول أن نغوص أكثر لا لنصل إلى القاع ولكن لنرتاح في جو العربية الأصيل لأن الغواص الماهر ليس همه القاع ولكن أن يستفيد ما في البحر من لآلئ وعندما تطالع كتب الأدب وجواهر الحديث أو تستأنس بكتاب رب الأرباب لن تشعر بغربة ولن تستوحش الطريق بل سيكون الجبل الأشم العالي كطريق سالك في سهل من سهول الوطن الواسعة.
تلميذي : أستاذي كلامك حلو جميل وفكرك خلاب وأخاذ وأنت لا يشبع من مؤانستك الصغير ولا الكبير ولكن وقت حصتنا انتهى وجاءت حصةالرياضيات فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه وإلى لقاء آخر أستأنس فيه بك وبدررك الجميلة من الحكم الخالدة.
أنا مقبِّلا رأسه : أستودعك الله يا صغيري فاذهب إلى حصتك بكل راحة وإلى لقاء آخر جميل بجمال طلعتك وحسن مجالستك والسلام.