مجلس تربوي مع الأمهات ودورهن التربوي (١)
(أ) مقام الأمومة في القرءان.
مساء حيث كنت أبحر عقلي في كتاب من كتبي سمعت لوهلة خشفة نعال من ورائي فالتفت فإذا قرة عيني وأنسي في وحشتي يبتسم ويقبل بوجه ملائكي ملوحا بيد صغيرة ما مسها كدر الحياة فقلت: – وقد غطني الفرح وهاجمني الإبتهاج – تعال يا تلميذي النجيب تعال لنغرف من معينك الصافي سعادة تروينا ما بقي لنا من أيام.
تلميذي : يا أستاذي مساءك مفعم بالبركة، مليء بالخيرات، ويتضوع منك شذى عطر أخاذ ولكن أولا : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أستاذي حتى لا أسيء العشرة وأفسد الجيرة وأخالف الأوامر الخيرة.
أنا : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا بني، دائما كن هكذا سديد الرأي وقّافا عند الأمر والنهي مطواعا لربه محبا لنبيه – صلى الله عليه وسلم – محترما لكباره رحيما لصغاره وقورا حييا يبر والديه وبالأخص الأم فهي عنوان القضية وجوهر الأمر ومقامها أرفع مقام وأفضله.
تلميذي: أستاذي
أنا : أجل يا صغيري.
تلميذي : في جلستنا السابقة كنت تتحدث عن الأمهات وأظنك لم تبلغ غايتك يومها لأننا كنا مع التلاميذ في المدرسة فقاطعتنا لوازم المدرسة عن الإسترسال وتوقفنا حيث لم ترو ظمئي في الأمهات.
أنا : تنهدت تنهيدة قائلا : وهل أنت متأكد أنك تريد هذا بصدق يا شبلي؟
تلميذي : نعم وبكل صدق يا أستاذي.
أنا : فمن أين تود أن نبدأ هذه الرحلة مع الأم؟.
تلميذي: في جلستنا السابقة إستشهدت بآيات من كتاب رب الأرباب لتوضح مكانة الأم بين الخلائق لكن لم يكن شافيا فسؤالي لك يا أستاذي ما هي الأم ومكانتها في القرءان العظيم.
أنا : الأم وصية من الرحمن بالبر وقضاء منه على ذلك أيضا وتفصيل الكلام أن الأم وصى الله ببرها في محكم تنزيله أربع مرات بأدلة واضحة لا تقبل إلا التصديق والرضوخ:
١. ففي سورة الأنعام بر الأمهات من الوصايا العشر إذ يقول سبحانه : ) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (. وأنت ترى يا بني ما في هذا التعبير القرءاني من جزالة ودقة وقد وضع الأم في مقدمة هذه الوصايا بعد تحريم الإشراك به والأمر بوحدانيته.
٢. وفي سورة العنكبوت قال : ) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( فهنا وردت الآية بالحسن نكرة تعميما لفعل كل ما هو حسن للوالدين، والأم ناصية ذلك الأمر ومقدمته.
٣. وفي سورة اللقمان لما أراد القرءان سرد ما وصى لقمان لابنه لوحظ أن هناك وصية جديرة بالملاحظة وهو أن الله أسند أمر الوصية ببر الأم إلى نفسه فقال بكل وضوح : )وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ( ولقد حاول المفسرون بإيضاح هذا الأمر وأتوا بآراء مختلفة لكن لا يوضح هذا الأمر إلا مقام الأم ومكانتها وهذا ما سنوضحه لا حقا.
٤. وفي سورة الأحقاف قال تعالى : )وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ( وفي هذه الآية وما بعدها أمر عجيب قد نبينه في وقت لاحق بحول الله.
هذه يا بني وصاياه سبحانه وتعالى ببر الأم والإحسان إليها والوصية آكد من الأمر المجرد ففيها معنى التعهد والحفظ من الضياع وفيها أيضا أمر توكيل لا ينفك عنك حتى تقوم بالأمر على أكمل وجه كما يمكن أن تكون أيضا توكيدا للأمر فالإحسان إلى الأم مأمور به والله ختم بالوصية لتدل على ختام الدين بهذه الوصايا المتكررة في القرءان وأهمية هذه الوصايا في هرم أولويات الدين.
ثم لم ينته الأمر هنا بل كان القضاء به والحكم علينا بالإحسان إلى الأمهات فقال تعالى في سورة الإسراء : (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) فكأن الله لم يرض في شأن الأمهات بالأمر والوصية فقط بل أتبعهما قضاء وحكما صدر من محكمته الرفيعة الشأن وقد يقال إن كلمة (قضى) تعنى هنا أمر وأوجب، وهذا صحيح أيضا لكن إعلم أن كلمات القرءان محسوبة بدقة متناهية فالقضاء هنا ظاهر وإفادة الكلمة لمعنى الإيجاب وارد بدلالة المعنى.
أما المكانة التي قلت بأنها تفسر كثيرا من الأمور في موضوع الأم فهي أنها تليه سبحانه إذ إن أوجب شيء في القرءان توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة ويليه الإحسان إلى الأم في الوجوبية إقرأ قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وإذا كان أمر وجوب الإحسان إلى الأمهات تاليا لأمر وجوب التوحيد لله فبالتالي يلى أمر تحريم العقوق على الأمهات أمر تحريم الشرك قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) فالنهي عن الشرك يتضمن التحريم ولا شيء يصرفه والإحسان إلى الأم المأمور في الآية يقابله عصيانها ومعاقاتها فحرمت الآية هذه العقوق بدليل أنها أمرت بضده.
فالأم تلت الله في هذه الأمور :
أولا : في الأمر بوحدانية الله يليه الأمر بالإحسان إلى الإمهات.
ثانيا: في النهي عن الشرك يليه النهي عن عقوق الأمهات.
ثالثا: شكر الله وحمده يليه شكر الأمهات قال سبحانه: (أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير)
فيا بني هل رأيت أسمى من هذا المقام أو أفضل منه وهل تبنت الآن أن حقيقة الأم في القرءان شيء فوق الوصف فهو وضعها في مكانة تتقاصر دونها الأعناق ولا تنالها الأيدي لتخدشها وإذا خدشتها فقد أساءت إلى نفسها وعادت تجر أذيال الخزي وعار فقد أمر الرحمن بالإحسان إلى الأم والبر بها حتى لو حادت الله ووقفت ضد أحكامه قائلا في سورة لقمان: ( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) ولا غرو أن قال الشاعر معروف الرصافي عن الأم بعدها:
أوجب الواجبات إكرام أمي ** إن أمي أحق بالإكرام
حملتني ثقلاً ومن بعد حملي ** أرضعتني إلى أوان فطامي.
ورعتني في ظلمة الليل حتى ** تركت نومها لأجل منامي.
إن أمي هي التي خلقتني ** بعد ربي فصرت بعض الأنام.
فلها الحمد بعد حمدي إلهي ** ولها الشكر في مدى الأيام.
تلميذي: وعيت هذا الدرس يا أستاذي وحتى لا أقصر في واجب البر أعود إلى البيت لأن الأم قالت لي يا بني لا تطل المقام خارج المنزل وعد إلي بسرعة حتى لا أقلق عليك.
أنا : لا تنس أن تطبق هذا وتذكر أن السمر معك جميل وأجمل منه أخذك للنصائح فليبارك الله فيك يا بني .
وبارككم أيضا يا أحبابي.