باسمك اللهم
والحمد لله رب العالمين.
وصلني ـ كهديَّةٍ ـ توئمان دفعهما رحم المطبعة في باكورة هذه السنَّة من صديقي وحبيبي فضيلة الدكتور محمد حسين معلم… حفظه الله تعالى. وهما:
1- المذهب الشافعي في بلاد الصومال: جذوره وتطوره.
2- ابن عبدربه الأندلسي مؤرخا.
والكتاب خير ما يَهدِى صديقٌ لصديقه؛ فقرأت ما خطَّت يدا الدكتور في مجلس واحد؛ فمن بدأ قراءة كتاباته لا يستطيع الانفصام عنها؛ لأنها سلسة عذبة، تجذب القارئ جذبا، وتستهوي محب العلم استهواء، وتمسك بتلابيبه حتى يُسلِّم يمنة ويسرة عند آخر صفحاته.
كنت أريد أن أتصفَّح القرطاس بعد وصوله إليَّ عبر البريد، وأتفحَّص بعض صفحاته؛ لأختبر عيدانه؛ ولأستدل بفهارسه بما في داخله، حتى يتسنى لي وقتٌ للقراءة كله قراءة تأمل وسبر؛ ولكنه أبى أن أكتفي بمرور عابر، أو بنظرة عاجلة؛ بل أكرهني على القراءة رغم أنفي بدون اختيار مني؛ حتى أفِقتُ عند الصفحة مئة وثمانية وتسعين؛ لأنه جمع في طياته حديثا ذا شجون؛ لأنه يتناول الشافعي وعلمه، الذي جعله الله له صدقة جارية تتدفق في بنك حسناته مادام فقيه على ظهر الأرض، ولا تزال أشجاره تثمر مادامت حلقاته عامرة، وأقواله تدرس، وكتبه تخدم، ونصوصه تنقح، وطريقته للاستنباط تنسج.
والعباقرة بعده عيال على علمه، منكبَّة على كتبه، والفقهاء على اختلاف مذاهبهم يقبطونه على ما آتاه الله من فضله، وتتمنى أساطينٌ مِن العلماء بتقليده، واعتبروه كالأكسجين الذي لا يستغنيه حيّ في لحظة، وكالروح التي شرط للحياة؛ فيدعون له بظهر الغيب في صلواتهم وسجودهم.
وخاف آخرون أن يطمس مذهبه مذاهبهم، وأن تنسخ أقواله أقوالهم، وأن يطفأ نوره الأخَّاذ أنوارهم، وأن تُظهر أفهامه عَور أقوالهم، فانزعجوا لذلك؛ ودعوا عليه بموت عاجل؛ وعمر غير آجل.
ووجه آخرون من بني علمان إليه سهام النقد إلى منهجه بعد مغادرته بمآت سنين؛ لأن الأسس المتينة، والقواعد الثابتة التي خلفها بعده جعلت أحلامهم للتلاعب بالدين أضغاث أحلام، وغصة في حلقومهم، فلم تترك لهم متسللا، ولا متمسكا، بل سدت عليهم جميع الجبهات؛ فحنقوا لذلك، ولم يجدوا ما يتعللون به إلا التشغيب والصياح، والتغريد خارج سرب العلم والمعرفة.
الكتاب الأول حوى أخبار علماء منطقتنا الذين قضوا نحبهم بعد جهاد طويل، وتربية أجيال، وتعليم طلاب، وتصوير مسائل، وتفكيك طلاسم الفقه، وتعبيد طرقه، والسهر بتأليفه وتصنيفه، بعضهم أدركناهم، وعرفنا منهجهم في التدريس، وآخرون لم ندركهم ولم نعرف طرقهم في التدريس، وبعضهم عرفنا أشخاصهم وطبائعهم، والباقون يعرفهم ربهم، بعضهم ماتوا ولقوا ربهم، وبعضهم ما زالوا على قيد الحياة؛ ولكنَّهم على الأثر؛ والقاسم المشرك بينهم هو التضحية والزهد عن الدنيا، وحبُّ العلم، والانقطاع إليه، وإثارة الفقه ودراسته على الدنيا ولذتها؛ فيض الله لهم أولادًا ليسوا من الطين وإنما هم مِن الدِّين والرضاعة العلمية، مثل “الدكتور محمد حسين” وأمثاله، يبرونهم بعد وفاتهم، ويحييون ذكرهم بين العالمين، وينشرون محاسنهم، وينبِّهون على جهودهم، ويغضون الطرف عَن عثراتهم، ويوقفون الطلاب على تراثهم، ويدلُّون على أماكن مصنفاتهم؛ لينهالوا من معينهم الصافي؛ وينسجوا على منوالهم؛ ويرفعوا راية العلم بعدهم خفَّاقة في علياء سماء بني صومال.
والدكتور ـ متعه الله بالصحة ـ اختار نماذج مِن هؤلاء العلماء ـ كما قال ـ ولكنه استوعب أغلب المشهورين، وذكر أعيانهم، ومؤلفاتهم الفقهية، وحلقات تدريسهم، وأماكن تواجدهم، وشيئا من منهج تدريسهم كالمقررات الفقهية لديهم، والكتب التي اشتهرت عندهم، وطريقة التدرج في التلقين والتعليم؛ مما يفتح للكتاب والباحثين نوافذ جديدة للكتابة والتكميل؛ ليسلطوا الضوء على الجوانب الإيجابية لهذا الإرث الواغل في التأريخ؛ بغية محافظته وتطويره؛ لأن القديم المألوف المجرب خير من جديد مجهول.
ولتتبعوا الجوانب السلبية؛ بغية إبعاد الطلاب عن أوضارها، وعطبها في المستقبل، وإيجاد بدائل فعالة تناسب البيئة.
ومما ينبغي الاعتناء به طرق تذليل صعوبات الفقه التي استخدموها، ومارسوا بها عمليا، وكانت متنوعة، كلُّ مدرسة كانت مشهورة بطريقتها الخاصة لتلقين درس الفقه، وإلقائه على الطلاب. فمدرسة “السمنترية ” بفروعها المختلفة كان لها طريقتها المتوارثة، كما كان لمدرسة الشيخ “حسين عدي” طريقتها التنشيطية الخاصة بها. وكذلك مدرسة الشيخ “عليّ ميّه” كان لها وسيلتها التي انفردت بها.
كانت طريقة الشيخ “حسين عدي” أبهرتني عندما دخلت مسجده في منطقة “بون طيري” مقديشو؛ لأنتظم بدرسه، وكان ـ رحمه الله تعالى ـ يدرِّس كتابي “منهاج الطالبين” ورياض الصالحين” للنووي رحمه الله تعالى، ومع أن الشيخ كان ضعيف الصوت، قد طعن في السنّ، ولم يكن يستخدم مكبرات الصوت؛ إلا أنه كان يستخدم طريقة جذابة لمشاركة الطلاب الدرس، ولطرد الكسل عنهم، فإذا مرّ بحديث أو أثر كان يرفع صوته بذكر اسم الصحابي، كعن أبي هريرة مثلا، فيقول الطلاب كلهم بصوت واحد: “رضي الله عنه” فيهتز المسجد للترضي عنه، ثم ينحدر صوت الشيخ ثم يرفع صوته عند ذكر اسم الحبيب صلى الله وسلم ” عندها يصدحون بالصلاة والسلام عليه، وهكذا دواليك؛ مما يوقظ والوسنان، وينشط الخامل.
وأما السمتريون القدماء فكان من عادتهم مشاركة “المجيب” مع الشيخ المدرس لإلقاء الدرس، وهو طالب نابغ يجلس أمام الشيخ فتجاذب معه أطراف الحديث، فإذا شرح الشيخ المسألة يشجعه ويقول بعده:” هكذا، أو “نعم” وربما يقول:” هِيه” والشيخ من خلال إجابة الطالب أو إشغاله المستمعين يلقى نظره على عدة الحواشي والشراح المنتشرة أمامه، المجموعة في رِحلِه؛ لأنهم في شرحهم “منهاج الطالبيين” لم يكونوا يعتمدون على شرح واحد، بل كانوا يعتمدون على عدة شراح وحواشي، كشرح التحفة وحواشيه، وقليوبي وعميرة، ونهاية المحتاج، ومغني المحتاج، وغيرهم، كل هذه الشراح والحواشي تُستَل مِن الكتاب؛ فيُجمع الموضوع الذي يدرسه الشيخ في “رِحله”. وهذه مهمة الطالب المجيب. كذلك كانوا يستهلون الدرس بالدعاء والتضرع لله بأن يرزقهم علما نافعا وعملا متقبلا، وكذلك يختمونه بالدعاء والابتهال.
ومن الظرائف كان الشيخ يُوسف دِرَيد أو تلميذه الشيخ محمود ـ لا أدري ـ يدرس “منهاج الطالبين” في الموقع المعروف حلقة “رَقَي” التي يُدرس فيها الفقه، وبينما الشيخ والطالب المجيب يتعاوران الكلام، ويتداولانه، وهما بين قائل ومجيب، إذ دخل رجل أعرابي في الحلقة وجلس مع الطلاب؛ فإذا هو يسمع “هَمهماتٍ، وهِيهاتٍ” التي تدور بين الشيخ والتلميذ، فلم يتمالك الأعرابي حتى أطلق أطنانا من الضحكات إلى أن استلقى على الأرض وأضحك الطلاب، وقال:” ما هذه الهَمهماتُ” كلعبة الأطفال.
فجزاك الله الكاتب القدير الدكتور محمد خير الجزاء، وجعل ذلك في ميزان حسناته، وجمعنا في مستقر رحمته في جنة الفردوس الأعلى.
وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد.
أخوك:
الدكتور: يوسف أحمد محمد.