“التعددية” كلمة شاع استخدامها في العصور المتأخرة، وتعني التنوع والاختلاف والقبول بها في الواقع الحياتي، ولها إيجابياتها الكثيرة، ولها سلبياتها القليلة.
على المرء – خاصة مجتمعنا – أن نمارس التعددية، والقبول بها بوجهها الحسن.
التعددية تخلصنا من العنصرية، والتمييز الفئوي والجهوي، وإقصاء فئات أخرى من المجتمع.
التعددية تخلصنا من الاحتكار لمجموعة متنفّذة في السوق الاقتصادي، وتُخلق فرصا كثيرة كانت محرومة أصلا من فئات كثيرة.
التعددية تخلصنا من الانفراد بالسلطة السياسية والاستبداد.
التعددية الدينية والفقهية تخلصنا من التعصب والجمود والتقليد.
التعددية بمفهومها الصحيح أن الله خلق أصنافا متنوعة من القبائل والشعوب والقوميات والمناطق والبيئات كي يستفيد بعضها من بعض:
{وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}.
هناك فرق بين التعددية وبين التفرق والاختلاف المذموم: فالاختلاف في الأصول الإيمانية والأصول السلوكية والإضرار بالفضائل اختلاف مذموم: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}، التفرق في الدين – أي في أصوله الكلية – مذموم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}.
ولكن الاختلاف سنة كونية، ولو شاء ربك لجعل الناس كلهم أمة واحدة على مذهب ورأي واحد، ولكن لا يزالون مختلفين.
ولكن هناك تعاون على البرّ والتقوى، وهي أعمّ مما نعرف عن البرّ والتقوى، بل هي البرّ التي تشمل الفضائل والأخلاق الحسنة والأعمال الحسنة من الإيمان والعمل الصالح وإطعام المساكين ومساعدة أصناف المحتاجين والوفاء بالعهود والصبر والسماحة، كما نصّت عليه آية : {ليس البرّ} في سورة البقرة، وهي تعمّ المسلم وغير المسلم، كما أن التقوى تشمل الكفّ عن العدوان وعن الإضرار بالناس، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
وإذا كانت سورة الممتحنة – وهي من أواخر ما نزل – خُصصت في البراءة من أعداء الدّين، فإن الله لم يهمل أهمية التعددية في وسط السورة: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، هناك شخص غير مقتنع بدينك، ولكنه مسالم لا يضرك ولا يضايقك ولا يعاديك، فهذه النقطة مهمة بالإشارة إلى وجوب البرّ والإحسان والعدل معهم.
التعددية أن تقبل الرأي الآخر إذا كان لا يصطدم مع الإيمان الصميم، ولا يضرّ بالمجتمع والفضائل، ولا يجلب الرذائل.
ولذلك كلّما انفتحنا على الآراء والتوجهات المختلفة كلما سلمنا من الآفة الاجتماعية، وكلّما انغلقنا عن التعددية، كلما دخلنا في وحل العنف والصراعات والشحناء والقتل والتدمير والحسد والحقد والبغضاء.
فعلينا أن نتدرب على الانضمام إلى النقابات والتنظيمات والأحزاب والجماعات والحركات الإسلامية – إذا كانت بطابع مدني لا ترى نفسها الوكيل الحصريّ عن الله في الأرض بل هي عبارة عن أنشطة عادية للتدرب على التعاون على التقوى والبرّ – لا بد أن نتدرب على تناول السلطة والتناوب على الكراسي، وقبول الآخرين.
أما الذين يحرّمون التعددية مستدلّين بآيات قرآنية وأحاديث نبوية فهم بعيدون عن الفهم الواسع للنصوص والطابع الاجتماعي، فهم دائما يتصورون بأن التعددية في الممارسات السياسية خطئية بل إن الخليفة والسلطان إذا عُيّن يجب طاعته ويحرم معصيته، ولا يجوز إنشاء حركات وتنظيمات وأحزاب ونقابات.!!
ويتصوّرون بأن التعددية في الممارسات الفقهية خطئية أيضا، بل الأمر فيه سعة، وإلا لما وجدنا في المسألة الواحدة أقوال كثيرة لأهل العلم.
النقد المفتوح المبني على العلم والمعرفة والبحث مُعالِج لكثير من آفة التعصب والانغلاق الذي يبدّد حريّة الفكر والإقناع والقناعة، وهو بديل عن الاتهام والإسقاط ومَحْو الآخر والإكراه وترهيب الفكرة.. فالقرآن من أوله إلى آخره مبنيّ على الحوار ونقد الآراء لكفار قريش ولأهل الكتاب والمنافقين، ينقل القول الخطأ، وينقده نقدا علميا بالحجج والبرهان.
فالحوار مفتوح: {قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله}.
ألا يكفي القرآن لنا مربّيا وهاديا؟.