في كتابه “نشأت الكليات” يرفض المستشرق الأمريكي من أصول لبنانية (جورج مقدسي)، فكرة الطفرة والتغيير المفاجئ في الأوساط الجامعية، ويتحجج بأن بِنْيَة الوسط العلمي هي بِنية بحثية، استدلالية، تراكمية، فلسفية، تختلف عن أي وسط أخر، لذا التفكير والحِراك في هذا الوسط الأكاديمي مدعوم دائماً بثوابت، لا يمكن أن تنطوي عليه أي مفاجآت عشوائية غير ممهد لها اجتماعيا وثقافياً وفكرياً.
وفق هذا المنظور يمكن أن نفهم لماذا ثارت الجامعات في العالم متضامنين مع قضية فلسطين بهذا الحماس الحي المنقطع النظير، في حين الجامعات القريبة والمجاورة لقضية الفلسطينية من بينها “الجامعات الصومالية”، أثرت الصمت أو الحِراك على خجل.
فالتقصي التاريخي لطبيعة الجامعات الثائرة، يُؤكد أن هذه جامعات في الأساس هي مؤسسات اكاديمية قامت على فلسفة ” تقديم رؤية للعالم مبنية على المعرفة المتولدة والمستمر والمتجددة ومواكبة لحاجات الإنسانية القائمة”، وتبني هذه الفلسفة جاءت بعد تحولات اجتماعية وسياسية وفكرية، جعلت من الجامعات منابر لتغيير والإصلاح تقودها طاقات شبابية يملئوها الحماس ولا تخضع بسهولة للسيطرة البيروقراطية.
ويوضح الفيلسوف الوجودي ” كارل ياسبرز” في كتابه (فكرة الجامعة) لماذا تُشيد الجامعات، فيقول: أن المؤسسة الجامعية لها وظيفة أساسية وحيدة وهي تجسيد الأفكار، فإذا فشلت الجامعة في وظيفتها، فإن روحها تتبخر، وتتحجر إلى شكل ميكانيكي، مثل الإنسان الذي يفقد روحه ويتوفى.
والقدرة على تجسيد الجامعات الأفكار هي نتيجة الحرية والاستقلالية، والانفصال بين دوافع أعضائها وبين أهداف ووظائف وعمل المؤسسة واستشعار طلاب لفعالية دورهم، والانفتاح الجامعة العلمي والبحثي على أفاق أوسع من مُحيطها المادي، ورُسوخ المبادئ، فالجامعات الثائرة اليوم هي جامعات تتمتع بقدر هائل لهذه المواصفات.
في مُقابل كل ذلك، نجد أن الجامعات التي من المفترض أن تثور وتقود موجات التضامن مع قضيتها المركزية، تفتقد كل مقومات تجسيد الأفكار، فهي فالأساس قامت لتكون “صدى” لأفكار المجتمع، وانعكاس لسياسات الدولة، ونتيجة لذلك فإن المعرفة الذي تُخرجها هي معرفة حذرة ذات طابع “أرشيفي”، دائماً تخشى، تُراعي، تتريث، وهذا جعلها، معزولة منغلقة على ذاتها، لا تتناغم مع الأحداث، فهي تَكْبُت جميع التحركات بحجة (اعتبارات أخرى) فدفنت نفسها على مهل في تابوت الخوف.