لقد شدني جمال تلك الغرفة وشدني أثاثها، كأنها قطعة من الجنة، في كل زاوية من زواياها الأربعة رأيت فيها أناسا مختلفين، النساء جميلات وساحرات وكذلك الرجال، لكنهم بائسون وغير مبتسمين. لا أحد يستطيع أن يعبر حدود زاويته، في بعض الزوايا تملأ الفواكه كل مكان، ولكن لا أحد يتناولها. رأيت في الزاوية المقابلة معلمة انيقة تعلم صبيانا لم أشهد يوما وهي تبتسم .. تسأل صبيتها بعض الأسئلة فيجيبون عنها غير أنك لا تكاد تجدها تتفاعل معهم، لا فرق بين ما يذكرون، ليس هناك فرق بين ماهر وبليد الكل سواء.
في بداية الأمر ظننت أنهم أدخلوني في زنزانة كبيرة؛ لكني لم أجد سجانين ولا محققين ولا سلاسل ولا أغلالا، هناك حرية مطلقة، الناس في الغرفة يخرجون ويدخلون، الأبواب والنوافذ مفتوحة. في إحدى الزوايا رأيت شخصا طيبا، كلما تلتقي نظراتنا يبتسم لي، لقد شعرت أنسا، وددت لو أذهب إليه، للأسف الشديد لا استطيع الذهاب إليه لا أحد يستطيع أن يعبر حدود زاويته على الإطلاق. بعض فترة رأيت أن هذا الوجه المشرق قد تغير وصار كباق الناس في الغرفة، لا يبتسم لي، تغير وجهه وتعلوه كآبة مظلمة، يا إلهي ما الذي حصل؟
لقد انطفأ مصدري الوحيد الذي استمد منه طاقتي وتفائلي، كنت أتوقع أنني يوما ما سأجلس مع هذا الوجه المشرق الطيب. شعرت بحزن شديد، وتساءلت: ترى، ما الذي يجري في هذه الغرفة البائسة؟ لماذا تتغير الوجوه فجأة ؟ لقد كدت أفقد الصواب، كرهت نفسي وكرهت كل شيء من حولي، وذهب نشاطي وتلاشت طموحاتي، وفقدت أملي، فكرت أن أصيح بأعلى صوتي لأفهم ما يجري، لكني خفت من هذه العيون التي ترمقني وتحيطني من كل مكان، تراجعت عن قراري ولم أصح.
فجأة .. جاءني شيخ مسن يعيش معي في نفس الزواية، سألني بعد أن لاحظ اضطرابي: لماذا انت قلق إلى هذا الحد يا ولدي؟
– أريد ان أفهم ما يجري في الغرفة يا عم.
– لن تفهم ما يجري في هنا الا اذا شربت من البئر..!
– أي بئر، ماذا تعني ياعم؟ .. أفصح، لم أفهم شيئا.
– هناك عند الباب الخلفي بئر مبارك شرب منها كل الناس في غرفتنا ليتكيفوا الوضع ويستمروا في حياتهم، وما عليك إلا أن تذهب إليها وتشرب منها، وإلا ستبقى بيننا مجنونا… لن تعيش معنا سعيدا الا اذا شربت مثلنا.
– وإذا لم أشرب ؟
– ستبقى هكذا كئيبا.
– انت تستهزء ..!
– لا أسخر منك، انا أرق لحالك أيها الطيب.
– شكرا يا عم، من الغد سأشرب منها.
عندما وصلت وجدت وضعا مزدريا، يشمئز منه كل ضمير حي، الان عرفت كل شيء، لقد وجدت لماذا الناس في الغرفة مختلفون؟ لقد شربوا من هذا البئر المقيت، ووجدت أيضا أن هناك كثيرين حاولوا هدمها وصاروا ضحايا، بعضهم أصيبوا بأمراض نفسية بعد أن فشلوا في هدمها، تحدثت مع آخر شخص حاول هدمها وفشل فيها وطار عقله وما زال يهيم في العراء قال لي:
– حاولنا – انا وزميل لي – إنقاذ الناس في الغرفة، ولكن الوضع صعب علينا، وأخيرا استسلم زميلي وشرب منها وصار طبيعيا كباق الناس في الغرفة.
– أين ذهب زميلك، وكيف كانت ملامحه؟
– لقد عاد إلى الغرفة، كان كيت وكيت..!
يا إلهي، الان أدركت لماذا تغير صاحب الوجه المشرق .. لقد شرب من هذا البئر اللعين، وبهذا تغير وجهه تماما وصار كباق الناس في الغرفة..!
– ماذا يمكن أن نفعل، أنا مستعد لفعل كل شيء من شأنه إصلاح الناس في الغرفة.
– يجب أن تفقد صوابك ..!
– وكيف لي بذلك ..؟
– ستفقد صوابك إذا لم تشرب من هذا البئر ..!
– غريب جدا، وإذا شربت منها ماذا يحدث؟
– ستكون طبيعيا كباق الناس في الغرفة.
– لكنهم في الحقيقة بائسون ..!
– نعم، بائسون، وتكيفوا مع بؤسهم.
– وكل هذا بسبب هذا البئر؟
– نعم، كل هذا بسبب هذا البئر..!
– علي بالله كذا سأهدمها … لعنة الله عليها والملائكة والناس أجمعين ..!!
– هنيئا لك، لقد فقدت الصواب، جاءتني رؤيا في الجمعة الماضية بعد أن نمت تحت تلك الشجرة، رأيت أن كثيرين سيحاولون هدم هذا البئر وسيفشلون ثم يفقدون صوابهم مثلنا، وسيصبحون مجانين وسيهيموت في كل مكان ويزداد عددهم وفي الأخير تحدث ثورة كبيرة تسمى ( ثورة المجانين) عندها يستطيعون هدم البئر وإنقاذ الناس وتعود السعادة في الغرفة ويتحرك الناس ويخرجون من الزوايا ويتناولون الفواكه ثم يبتسمون..!
– وهل انا مجنون..؟!
– نعم، انا وانت وآخران رأيتهما أمس في طليعة المجانين.
– وكيف عرفت أنني مجنون؟
– لأنك تحاول أن تهدم هذا البئر.
– وماذا عسانا نفعل أيها المجنون..؟
– يجب علينا أن ننتظر حتى يزداد العدد.
– اي عدد؟
– عدد المجانين ..!
– ههه والله العظيم انت مجنون ..!
– لا شك في ذلك وانت ايضا؛ أو لعلك في الطريق ، لدي أمل في ذلك، وفي الحقيقة رأيت في تلك الرؤيا أن مجنونا نشطا سينضم إلى المجانين القدامى، ولا شك في أن المعني انت..!
بعد حوار طويل وغريب إقتنعت بأنني مجنون وما زلنا ننتظر بشغف بهذا اليوم الموعود يوم تحدث الثورة المباركة. ( ثورة المجانين).