كل من يريد أن يسلم في الدارين، ويعيش على هدى مستقيم، ويرى الحقائق كما هي عليه أن يتحلى بعقيدة صحيحة، وأن ينعم بتصور صائب، ويبرهن ذلك إرسالُ الرسل والأنباء للاعتناء في هذا الموضوع أيما اعتناء، وما ذلك إلا لخطورته، وبالغ أثره في الدارين في الدنيا والآخرة.
والأنبياء باختيار من الخالق العلام الغيوب جاؤوا لمصلحة البشر؛ ولكي تتحقق هذه المصلحة اختار لهم أن يكون التوحيد اللبنة الأولى، والأساس الذي بني عليه الحركة في هذا الكون، وأن يكون مفتاح التقويم والتصحيح.
ولأهمية هذا الأصل كرس القرآن الكريم وكرر، وساق لأجله آيات كثيرة بصيغ مختلفة، وأساليب متنوعة، وبدأ وأعاد في أماكن كثيرة، وجعلها قاسما مشتركا بين الأنبياء والرسل الذين قد قصصهم الله علينا والذين لم يقصص علينا، مع تباعد أزمنتهم، وتباعد أوطانهم، وتنوع أممهم، واختلاف بيئاتهم؛ ولذلك قال تعالى: ” وَلَقَدۡبَعَثۡنَافِی كُلِّ أُمَّةࣲ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَوَٱجۡتَنِبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَۖ “([1]). وتصحيح اعتقاد الإنسان بربه ونفسه، وبالكون وبالدارين قضية ضرورية حتمية؛ لأن فكر الإنسان وسلوكه ما هو إلا انعكاسات تصوراته وعقيدته، وهي مقوده وزمام أمره، وبوصلة توجيهه؛ فإن استقامت له عقيدته اعتدلت له سلوكياته، إذن؛ الإنسان ما دام لم يكن تصوره صحيحا فإن سلوكه وعمله حتما لا يمكن أن يستقيم؛ ولذلك ترى في عالم الواقع، رجلا متعلما، وبروفسورا مشهورا، تتنازع عليه الجامعات، وتستهويه كبريات المحاضن العلمية، وتتمنى استعارته الكليات المعرفية، ولكنه مع ذلك فإنه يعبد “فئرانا” أو أحجارا، وأصناما نحتها بيده، ويتبرك أوثانا يطلب منها المدد، ويرجو خيرها وبرها، أو يلوذ بها من العطب والمهالك!
وأذكر أن طبيبا مشهورا بعلاجه الأمراض الفتاكة، ومجموعة من الضباط المحترفين وضعوا عصى الترحال في دير الشيخ العراف، والكهان المشهور، الذي نُشجت حوله هالةٌ من الكرامات المصطنعة؛ لأجل الحيل المتجددة، والدعايات المغرضة التي يتولى كبرها تلاميذه المشاركون معه للاستفادة من الشركة الدرَّارة بالأموال والعطايا والأرزاق، خاصة حينما يقع في فخهم مثل هؤلاء الأثرياء، فما كان من الشيخ إلا أن راغ إلى غرفة العمليات فتناول كأسا وتمتم ونفث فيه وتوضأ فصب ماء وضوئه فيه، وأمرهم بشربه؛ طلبا للراحة النفسية.
وإذا تأملت ما في هؤلاء من الانحراف يتبن لك أن أصل المشكلة هي تصورهم الداخلي المنحرف؛ لأن فساد العقيدة يترتب عليها فساد السلوك، وأن البشر يدير حياته، ويعمل بطريقة خاطئة إذا لم تكن عقيدته ولا تصوراته صحيحة، وعلى هذا قد يَستحسن كلَّ سلوك شاذ، وقد يعتنق كل خرافة بعيدة عن العقل السليم، فيتصور ـ عن الكون وبدايته ونهايته، وسبب خَلقه، والهدف من وراءه، وسبب بدايته وكيفية نهاية العالم ودَورِه في الكون ـ خرافة مضحكة أحيانا، فيتذرع بأن الطبية وراء هذا العالم الفسيح، وهو لا يستطيع شرح الطبيعة ولا معرفة حقيقتها، ولا يعرف لها منهجا ولا مطلبا، ولا يدري هل الطبيعة طويلة أم قصيرة، أهي سوداء أم بيضاء، أسمينة هي أم نحيفة؟ يتناقض تمام التناقض كان يزعم أنه لا يؤمن إلا بما رأى أو لمس، وها هو يعتقد بطبيعة لا يلمسها، ولا يعرفها!
فالمشكلة عنده انحراف تصوره ورؤيته للأشياء، فأثمرت له هذه الثمار المرة، فإذا وضع هذا الإنسان غيرُ مستقيم العقيدة قوانينَ، أو سنَّ شرائع تختلط عليه الموازين فيرى القبيح جميلا، والانحراف استقامة، ويرى الأموال والثروة آثر من النفس وأغلى، حتى تصير الأنعام أهدى إليه سبيلا، وأقوم منه طريقا، وعلى هذا يجب تصحيح التصور قبل تصحيح الأقوال والأفعال! فالشجرة المائلة حتما سيتبعها ظلها؛ فيتفيأ معها ذات اليمين وذات الشمال، ولا يمكن تقويمه أو تعديله إلا من خلال تعديل الشجرة؛ فإذا استطعنا تعديل الشجرة حتما نستطيع عندئذ تقويم الظل!
وهذا ما جنح إليه الأنبياء والرسل، فجعلوا التصور الصحيح قاعدة انطلاقهم إلى المجالات الأخرى!!
ثم تأتي الخطوة الثانية: وهي سلوكيات التي بنيت على هذه العقيدة، وكان الأنبياء يعالجون هذه السلوكيات حسب الظروف، وحسب ما عند المجتمع من المعاصي والانحرافات عن الخط المستقيم، فبعضهم كانوا يهتمون بإصلاح الأموال، ومنع نهبها عن المجتمع، وجنيها بطريقة باطلة، وأمروا ايفاء المكيال والموازين بالعدل والقسط، ويمثل هؤلاء الأنبياء نبيُ الله شعيب عليه السلام، وبعضٌ آخر كانوا يهتمون بالانحرافات السلوكية، كالشذوذ والجنسية، والزنا، وغيرها من الأمراض الاجتماعية، وهذا مما حذر عن مغبّته لوط عليه السلام، وهناك قسم آخر من الرسل عالجوا العدالة الاجتماعية وحذروا عن مغبة الجور والظلم، وسلب حقوق المجتمع، واستباحة دمائهم وأمولهم عن طريق قوة السلطان، وقد اهتم بهذا الجانب “موسى وهارون عليهما السلام”، وكذلك اهتم تبي الله “آدم” عليه السلام بجانب اتباع الهوى ومداخل الشيطان، وطرق غوايته الناس، ومحمد صلى الله وسلم بما أنه خاتم الأنبياء والرسل جمع جميع هذه المواضيع، حتى ترك أمته على محجة بيضاء..
وإذا كانت العقيدة بهذه المثابة من الأهمية، وأن انحرافها بهذه الخطورة، فيجب حماتها عن الانحراف بعد تصحيحها، والدفاع عن التلاعب بها؛ ولذلك جعلت الشريعة من أوليات ضروريات الخمس حفظ الدين، وحماية العقيدة، وكان الأنبياء والرسل وأتباعهم متفقون على حماية العقيدة بعد تصحيحها، وأهمية هذه القضية، وخطورة الاستهانة بها، وإن كانت الوسائل تختلف حسب الظروف، ومن أهم وسائل حمايتها:
1/ تعليمها، ونشرها بين الناس، وإيصالها صافية إلى جميع شرائح الناس، كبارا وصغارا، رجالا ونساء، من خلال حلقات المساجد، ودروس المدارس، والندوات العلمية، والدورات السريعة، والمؤتمرات السنوية، ويتكاتف الناس على إذاعتها، ودعوتها إلى البشرية جمعا، واعتماد استراتيجية ايصالها إلى الأقرب فالأقرب حتى تنداح الدائرة، فتشمل الجار وما يليه، وتنويع الوسائل حسب الحاجة، هذا يوزع كتابا، وهذا ينشر مقطعا، وذاك يوزع منشورا، وهذا يرتب مجلسا، وذلك يعظ الناس، وهذا يجلس للتعليم حتى يكون التوحيد نقيا، والعلم صافيا منطلقا عن الكتاب والسنة، خاليا عن الغبش، والتموجات الفكرية، والذبذبات العقدية؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فعلى كل مسلم أن يبلغها حسب طاقته، وحسب معرفته، حتى نحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم” بلغوا عني ولو آية، فرب مبلغ أوعى من السامع” وهذا واجب على عموم الأمة؛ لقوله تعالى” كُنتُمۡخَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَبِٱلۡمَعۡرُوفِوَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِوَتُؤۡمِنُونَبِٱللَّهِۗ”([2]) فيجب غرز العقيدة في أعماق قلوب الصغار، وتربية النشء عليها مع اللبان، حتى يتربى عليها الصغار، ويهرم عليها الكبار..
2/ حمايتها عن الأعداء، والوقوف أمام محالتهم لإفسادها؛ ولذلك شرع الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لحراسة العقيدة الصحيحة؛ لقوله تعالى ” أُذِنَ لِلَّذِینَیُقَـٰتَلُونَبِأَنَّهُمۡ ظُلِمُوا۟ وَإِنَّ ٱللَّهَعَلَىٰنَصۡرِهِمۡلَقَدِیرٌ”([3]) وليس هناك ظلم واعتداء أكبر ولا أعظم من الاعتداء على عقيدة المسلمين. وقال تعالى: “وَلَا یَزَالُونَیُقَـٰتِلُونَكُمۡحَتَّىٰیَرُدُّوكُمۡ عَن دِینِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَـٰعُوا۟”([4]).
وبالجانب الآخر يُقاتل من يمنع أن تصل هذه العقيدة إلى البشرية، بدون أن يجبر عليها أحدٌ، ولكن من يقف أمام انتشارها، وإيصالها إلى الناس يُقاتل؛ لمنعه إياها إن كان هناك قوة؛ فكما يقاتل الأعداء لمنعها يقاتل المسلمون لنشرها؛ حتى يكون الدين كله لله.
3/ تجفيف منابع الشرك، وخوارم العقيدة الصافية، ومنع إنتاج الأصنام والأوثان بجميع أشكالها وأنواعها، وعدم السماح كل وسيلة توصل إلى الشرك أو إبراز مظاهره..
4/ الابتعاد عن مورد الشبهات، والفرار عن كل مجلس أو كتاب يثير شبهات حول العقيدة الصحيحة؛ إذ الشبهات مثل البكتيريا والميكروبات الخطيرة، سريعة العدوى، والقلوب ضعيفة خطافة، والأنسان يتأثر بعضه ببعض، والسلامة لا يعدلها شيء؛ ولا يورد مصح على مريض، والشبهات أكثر انتشارا من كرونا، وأعدى من جرب، وأشد فتكا من جذام، وأفسد من الأسود الجائعة، والذئاب الضارية؛ ولذلك نهى الله تعالى الجلوس مع أهل الشبهات والباطل؛ لقوله تعالى” وَإِذَا رَأَیۡتَٱلَّذِینَیَخُوضُونَفِیۤءَایَـٰتِنَافَأَعۡرِضۡعَنۡهُمۡحَتَّىٰیَخُوضُوا۟ فِیحَدِیثٍغَیۡرِهِۦۚ”([5]) فلا يجوز قراءة كتب الفلاسفة وأهل الباطل، والورود مواقع أهل الإلحاد والبدع، ولا يصح دخول مواضع الروافض، والخوارج، وأهل الأديان الباطلة من النصارى وغيرهم، إلا من كان متمكنا بمعرفة الدين الإسلامي، واثقا بثباته؛ لأنه لا يسبح في البحار والمحيطات إلا من يجيد السباحة، ويأمن على نفسه من الغرق؛ ولا يخوض في الحروب والوغى إلا من كان مدربا، يجيد الكر والفر، وليعلم أن الخوض في مظان الشبهات ومقارعةَ أهل الباطل والرد عليهم، هي معركة من أشرس المعارك لا يخوضها إلا قوي الجنان، شديد البأس، ذكي الفؤاد، متوقد الذاكرة، راسخ القدم في العلم والمعرفة، واسع الثقافة، متمكن من فن الجدل والخصومة.. ولهذا أطلق العلماء سابقا صيحة إنذار للعوام، وهابوا من العوام أن يبتعدوا عن أهل الأهواء والضلال من أهل الكلام والفلاسفة؛ حتى لا يزرعوا في قلوبهم شبهات لا يجدون لها علاجا، فصيانة الأديان أولى من صيانة الأبدان.
صحيح، قد يعطي الرب شخصاً ما قدرة لاستخراج فائدة من بين براثن الشر، واستخلاص دواء من بين سم مدفف، وانتخاب إبريز من الذهب الصافي من بين أتربة وعُفُونٍ.
وقد يُقال إنَّ وجودَ مثل هذا الشخص ذي الإمكانية المتميزة ضرورة شرعية، وحاجة واقعية؛ إذ الخير الصافي عز ونذر، والشَّوب طم وعم، واختلط الحبل بالنابل، وامتزج الخير بالشر، ولتبس الحق بالباطل، ونفخ المبطلون بما في أيديهم من العلوم والمعارف سما زعافا، وباطلا ماحقا، ودسيسة مُبيرة لا تقوى عامة الناس على ميرة الخير، وإدراك مرام الكلام، وما وراء الاصطلاحات من معان ومرام؛ ولذلك يجب إبعاد هؤلاء عن الغوص في بحار الهلاك، والورود على مناهل العطب. فمدرب الأسود واللاعب معها لا ينبغي أن يغري الدهماء بمصارعة الليوث، وملاعبة الضراغم، والصيدلي الحاذق الذي ينتزع الأدوية من فكي الثعبان، والحيات ذات السموم القاتلة لا ينبغي ألا يعرض خطر المزاولة السموم لعامة الناس، أو إغرائهم بملامسة الجَنان والحيَّات؛ لأن ذلك يسبب لهم هلاكا وعطبا، وكم من أدوية تشفي أقواما وتردي آخرين!
وكتب الملاحدة، ومقررات الشيوعيين، ومناهج الليبراليين، وتأليفات أهل الباطل لا ينبغي أن تكون في متاول أيدي العوام، والصغار السذج، حتى لا تفتك قلوبَهم البريئة سهامُ الملحدين، وحتى لا تتشرب صدورُهم الطاهرة جراثيمَ غَدرهم، فيخسروا في الدنيا والآخرة.
وهؤلاء ـ أعني المبتدئين وأشباههم ـ في أمسِّ الحاجة مَن يَسقون عينَ العلوم الصافيةَ، واليقينَ الثابتةَ، والإيمانَ الراسخ، حتى تتقوى عيدان معرفتهم، وتترسخ جذور إدراكهم بحيث لا تحركهم الرياح العاتية بله قلعهم، فيثبتوا على الدرب، ويسعدوا في الدنيا والآخرة!
عندما كبرتُ أدركتُ خطورة إرضاع الصغار لِبأ الأفكار الفلسفية، وكتب الفكر الموضوعة على سنن الفلسفة، والدفاتر المحشوَّة فيها بالآراء المرسلة، والإنشاءات التي لا خطام لها، والاحتمالات التي لا مرجع لها، فهي لا تعدوا أنها آراء رجال وسوانح أفكار، ونتائج عقول، وما انقدح عن زناد فكر من تخيلات غير معصومة، وراء غير موثوقة يقينا، وما ترتب على ظروف غير مستقرة، ومقالة غير متخصصة، فإرضاع الصغار في زمن تكوينهم من ذاك الثدي، وإيرادهم هذا المنهل، وإقحامهم في هذه الورطة له آثار وخيمة، وأمراض فتاكة، وتنشئة غير سوية، وتصور غير سديد نحلب اليوم أشطره، ونعاني من تبعاته، بحيث اختلط الحبل بالنابل، والصافي بالكدر، والحق بالباطل، والسم بالعسل، والصحيح بالفاسد، والزيف بالأصيل، فنشأ جيل احتجزت هذه الآراءُ في عقولهم مساحةً واسعة، واحتلت في تفكيرهم محل القداسة، واتخذ هؤلاء الكتاب وكتبهم مرجعا يثقون به بدون تمحيص؛ إذ التمحيص ليس في مقدرتهم، ولا متناول أيديهم، وما تذوقوا ـ أصلا ـ علما رصينا، ولا قاعدة فاحصة، ولا تربوا على نص مقدس، يحفظون آراء الرجال أكثر من حفظهم النصوص، ويعرفون أسماء المفكرين أكثر مما يعرفون الفقهاء والمفسرين، ويزدادون بالمفكرين حبا، وعن الفقهاء بعدا؛ ولذلك يتقحمون في هذا البحر العميق بلا روية، ويَلِجون فيه بلا خوف، فيهلكون في تضاعيف كتب الفكر، فإذا وردوها لا يزيدون منها إلا عطشا، وإذا قرءوها لا يستخرجوا منها إلا شكوكا وشبهات تعكر صفو فطرتهم، وتزلزل ثبوت أقدامهم، وتخرب فطرتهم الأصيلة، وتقودهم إلى تخليط وتشويش، وتدوخهم تنميق ألفاظهم، ورنقة تعابيرهم، وسلاسة أساليهم، فظنون أنَّ كل حاذق في الحبك والتأليف حاذق في جميع العلوم، فغاب عنهم؛ لحداثتهم أن المفكر البارع في تسويق أفكاره لا يلزم أن يكون مجيدا للعلوم الشرعية، والأصول العقدية!
———————————————–
([2]) سورة آل عمران، الآية 110.