إن حرية التعبير من أبسط حقوق الإنسان التي تساعده على اختيار معتقده وتكوين أفكاره، فإذا تم تكميم الأفواه، وربط الألسن، ومنع الشفاه من أن تنبس ببنت شفة، فلا شك أن الإنسان يضيق ويتضجر وربما ينضغط لدرجة الانفجار.
ولهذا كان من هدي الأنبياء الحوار حتى مع المخالف والمخطئ، لإعطائه حقه في التفكير والدفاع عن أفكاره بما يراه حججا منطقية وعلمية، وبراهين عقلية ومعرفية، وكان النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يسمح للمخالف بالتحدث إليه ولو بأسلوب لا يليق بمقامه الشريف صلى الله عليه وسلم، طالما أن المسألة قابلة للنقاش وأن المناقش ممن لم تقم عليه الحجة ولم تصل إليه الرسالة واضحة، والنماذج في هذا المجال أكثر من أن تحصى نذكر منها هنا نموذجين:
الأول: المخالف: قصة عتبة أبي الوليد: عن جابر بن عبد الله. قال: اجتمع قريش يوما فقالوا أنظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه ؟
فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة.
فقالوا : أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا.
والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى: أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباه فأختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” فرغت ؟ ”
قال : نعم !
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ { حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ * كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [ فصلت: 1 – 3 ].
فقال عتبة : حسبك ما عندك غير هذا ؟
قال : لا، فرجع إلى قريش فقالوا ما وراءك ؟
قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته.
قالوا : فهل أجابك ؟
فقال : نعم ! ثم قال : لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
قالوا : ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال ؟
قال : لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.
وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم عن الأصم عن عباس الدوري عن يحيى بن معين عن محمد بن فضيل عن الأجلح به.وفيه كلام
وزاد : وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت وعنده أنه لما قال : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ }[فصلت : 13 ] أمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم.
فقال أبو جهل : والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه فأتوه.
فقال أبو جهل : والله يا عتبة ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد.
فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا.
وقال : لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته – وقص عليهم القصة – فأجابني بشئ والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة، قرأ : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ { حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ } حتى بلغ : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}.
فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب.
الثاني: المخطي المستفسر: ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ ، وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ ، وَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ عَقَلَهُ ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ ، وَكَانَ ضِمَامٌ رَجُلًا جَلْدًا أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ ، فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ” , قَالَ : مُحَمَّدٌ ؟ قَالَ : ” نَعَمْ ” , فَقَالَ : ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، إِنِّي سَائِلُكَ وَمُغَلِّظٌ فِي الْمَسْأَلَةِ ، فَلَا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ ، قَالَ : ” لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي ، فَسَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ ” , قَالَ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَهَكَ ، وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ ، آللَّهُ بَعَثَكَ إِلَيْنَا رَسُولًا ؟ فَقَالَ : ” اللَّهُمَّ نَعَمْ ” , قَالَ : فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَهَكَ ، وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ ، لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الْأَنْدَادَ الَّتِي كَانَتْ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ ؟ قَالَ : ” اللَّهُمَّ نَعَم ” , قَالَ : فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَهَكَ ، وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ؟ قَالَ : ” اللَّهُمَّ نَعَمْ ” , قَالَ : ثُمَّ جَعَلَ يَذْكُرُ فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ فَرِيضَةً فَرِيضَةً : الزَّكَاةَ ، وَالصِّيَامَ ، وَالْحَجَّ ، وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ كُلَّهَا ، يُنَاشِدُهُ عِنْدَ كُلِّ فَرِيضَةٍ كَمَا يُنَاشِدُهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ ، قَالَ : فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَسَأُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ ، وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ ، ثُمَّ لَا أَزِيدُ وَلَا أَنْقُصُ , قَالَ : ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى بَعِيرِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَلَّى : ” إِنْ يَصْدُقْ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ ، يَدْخُلْ الْجَنَّةَ ” , قَالَ : فَأَتَى إِلَى بَعِيرِهِ ، فَأَطْلَقَ عِقَالَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَال : بِئْسَتِ اللَّاتُ وَالْعُزَّى , قَالُوا : مَهْ يَا ضِمَامُ ، اتَّقِ الْبَرَصَ وَالْجُذَامَ ، اتَّقِ الْجُنُونَ , قَالَ وَيْلَكُمْ ، إِنَّهُمَا وَاللَّهِ لَا يَضُرَّانِ وَلَا يَنْفَعَانِ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وإِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ ، وَنَهَاكُمْ عَنْهُ , قَالَ : فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا , قَال : يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ.
وكانت نتيجة الحوارين إيجابية:
ففي الأولى أيقن أبو الوليد ومن معه من كفار قريش أن الرسول صادق في ادعائه النبوة، بدليل أنهم ما اعترضوا على توسله للنبي صلى الله عليه وسلم بأن لا ينزل عليهم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
أما في الثانية: فقد انبعث ذلك الرجل داعيا إلى الإسلام فآمن بفضله فئام من الناس.
هذه الأدبيات التي ينبغي أن نؤسس لها نحن المسلمين خاصة المتصدرين للدعوة، فنعطي للناس مساحة يعبرون بها عن خلجات صدورهم إيجاب وسلبا، فما نافى الصواب نصحنا فيه، وما وافق الصواب بنينا عليه.
ولكن إذا أعجب كل ذي رأي برأيه بحيث لأ يسمح لرأي غيره أن يسمع ولا لفكره أن ينتشر فتلك كارثة دينية واجتماعية، ويصعب علاجها إلا بإضاعة زمن كثير واستهلاك طاقة كبيرة.
فلا ينبغي أن يكون غيرنا أكثر إشاعة للحرية في القول منا، ونحن أمة (وجادلهم بالتي هي أحسن).
وبهذه المناسبة تحضرني قصة أوردها العلامة المقاصدي أحمد الريسوني في مقال له بعنوان: في نقد الحركة الإسلامية، حيث قال: (( وأنا الآن أتذكر حادثة طريفة ومعبرة،أختم بها هذه الحلقة، وهي أن أحد المفكرين المغاربة حكى لي بعد عودته من مؤتمر لإحدى الحركات الإسلامية ماعاناه من تضايق وتضييق وضغط، لمغادرة المؤتمر، بسبب بعض آرائه التي لا تناسب “المقام”. حتى إنه قال لهم غاضبا ومقاطعا: إن النظام المغربي يعطينا من حرية التعبير والنقد أكثر بكثير مما تعطوننا أنتم” (المصدر: صفحة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين).
وفقنا الله وإياكم إلى ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.