يخدع الشيطان كثيرا من ذوي النيات الحسنة لطلب العلم ويجعل عائق التفرغ ماثلا أمامهم في كل حين، وقد يبحثون عن أدوات ومنطلقات طلب العلم فيجدون أول ما يسمعون من كلمات المشايخ والطلاب القولة المشهورة المنسوبة للإمام الشافعي أو غيره : “العلم إذا أعطيت كلك يعطيك بعضه، وإن أعطيت بعضه لا يعطيك شيئا”. فيتوقف عن العلم ويقول: ما دمت لا أستطيع أن أعطي العلم كل وقتي فلا فائدة من التشاغل به.
ولهذا ينصرف قدر كبيرمن الشباب عن طلب العم، ويتعللون بكثرة الأشغال لا سيما في هذا العصر الصاخب المليء بالمشاغل الحقيقية والمفتعلة . ولقد أساء كثير من الناس الفهم لهذه الكلمة ولكلمات أخرى في طلب العلم، وهذا التعبير – إن صح- فالمعني به هو طالب العلم الذي يطمح إلى أن يكون مفتيا وعالما مرجعا يهرع إلى فتواه. وأما طالب العلم الذي يريد أن يرفع الجهل عن نفسه، وإدراك أصول الشريعة العامة، والإلمام بفنٍّ أو فنّين فليس التفرغ شرطا له ولا زما. وإذا تأملنا في سير الأولين أدركنا أن التفرغ التام لم يكن شرطا يوما من الأيام، وأن الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم أجمعين – وهم أجل من يقتدى بهم لم يكن أكثرهم متفرغين للعلم التفرغَ الذي نتوهمه.
وحسبك أن تقلب صفحات كتب التراجم والأعلام لترى كم كان من العلماء من البزازين، والخياطين، والقفالين، والتجار وغيرهم. منهم الإمام عبد الله بن المبارك، ومسلم بن الحجاج، وغيرهم كثير . وألف فيهم بعض المعاصرين كتابه: الطرفة في من نسب من العلماء إلى مهنة أو حرفة. وقد تقول أن هذا عصر مضى وانقضى وقد كانوا يعملون قليلا … ويكفيهم ما يحصلونه في ساعات أما الآن فقد تكاثرت حاجيات الإنسان، وافتعل له في العصر من الحوائج ما لم يكن يخطرعلى البال . أقول نعم، حتى في هذا العصر نماذج حية من الدكاترة الأطباء والمهندسين ممن ضرب من العلم بسهم وافر بل وصل منه أسمى غاياته. وكثير منه لا يزال يمارس مهنته .
ومن المقرئين المشهورين : الشيخ المقرئ بالقراءة العشرة الكبرى والصغرى بالمسجد النبوي إيهاب فكري، والشيخ الدكتور المقرئ الطبيب عبد الله جار الله، وكلاهما يقرئ في المسجد النبوي. ومن غيرالقراء : د. محمد يسري(دكتوارة في الهندسة الكيميائية، ودكتوراة في الشريعة ) ، ومحمد موسى الشريف ( كابتن طيار، ودكتور في علوم القرآن)، وأحمد حطيبة (طبيب أسنان وفقيه متميز له كتاب في 16 شرح فيه دليل الطالب)، ومحمد إسماعيل المقدم (ماجستير في طب الأعصاب وداعية مشهورة له مؤلفات كثيرة)،وياسر برهامي(إخصائي طب أطفال وشيخ داعية، وسعيد عبد العظيم ( له أكثر من 20 كتابا و هو طبيب جراح ). على اختلاف مشاربهم و مذاهبهم! ومن المشايخ الصوماليين الشيخ أحمد يرى (طبيب مختبر)، وهو من أكثر المشايخ الصوماليين الذي تحفظ عنهم دروس مسجلة، 63 كتابا تقريبا.
وشيخنا المحدث عبد الله علي جيله أخبرني أنه كان يعمل من السابعة صباحا إلى العصر ما يقرب من ثلاثين سنة مدرسا مرة، ومرة مشرفا تربويا . وطيلة هذه المدة هي التي أنجز فيها الشيخ إنتاجه الصوتي من آلاف الأشرطة المسموعة، واستفاد منه الناس، وأما في فترة طلبه للعلم الأساس فقد كان متفرّغا.
يأتي هنا سؤال : ما هي الطريقة التي يسلكها هؤلاء للإنجاز مع شغلهم المتواصل؟ الجواب : كقاعدة عامة : ساعة أو ساعتان في التحصيل مع الاستمرار تأتي بإنجاز كبير بإذن الله. وكادت تتفق كلمات العلماء والحكماء على هذا . فقال أحمد أمين : “قليل من الزمن يخصص كل يوم لشيء معيّن قد يغيّر مجرى التاريخ، ويجعلك أقوم مما تتصور وأرقى مما تتخيّل “. فيض الخاطر الجزء الثالث وقال محمد علي كرد:” من اقتصد ساعة من وقته كل يوم يصرفها في ما يعود عليه بفائدة تم له في بضع سنين ما يسمو به على الأقران:”. المذكرات.
وقال مروان عبود :” إن ساعة تنتزع كل يوم من ساعات اللهو، وتستعمل في ما يفيد تمكن كل ذي مقدرة عقلية أن يملمّ بعلم بتمامه. وساعة واحدة تمكنك من مطالعة عشرين صفحة بتمعُّن وفهم، وإذا ثبت على هذا العمل عاما تطالع سبعة آلاف صفحة – أي- ثمانية مجلدا كبيرا في السنة. حبر على ورق (ص: 134).
وقال العلامة المرغيناني الحنفي ” إنما غلبت شركائي بأن لا تقع لي فترة في التحصيل “. ويختصر لك كل هذه المقالات قوله – عليه الصلاة والسلام- حين سئل عن أحب الأعمال إلى الله فقال :” أدومها وإن قلّ”.