مع الذكرى الخمسين لإنقلاب الـ ٢١ من أكتوبر عام ١٩٦٩ كنت أتابع النقاش الدائر في وسائل التواصل الإجتماعي بين مؤيدي الإنقلاب العسكري وبين معارضيه، وأدهشني رأي بعض مؤيدي الانقلاب الذين يرون أن فترة الحكم العسكري هي الفترة الذهبية للصومال ويتمنون عودة هذا النوع من الحكم، ومن ثم يصبون جام غضبهم على الحركات المسلحة التي خاضت حربا مسلحة ضد الحكم العسكري أدت إلى سقوطه وينسون أو يتناسون الأسباب التي أدت إلى نشوء هذه الحركات المسلحة وإن كنت أشاطرهم الرأي بأن هذه الحركات لم تجلب سوى الدمار والخراب للصومال.
لا أحد ينكر ما وصل إليه الحال في الصومال بعد الإطاحة بالنظام العسكري من فوضى عارمة أكلت الأخضر واليابس وأدت إلى تفكيك الدولة الصومالية إلى قبائل متناحرة كما كان الحال في التسعينات مرورا بمرحلة زعماء الحرب و مرحلة الإحتلال الإثيوبي ثم المرحلة الحالية ، ولا أظن أن هناك من يجرأ بالقول بأن أيا من هذه المراحل أحسن من نظام زياد بري، فالنظام الفاسد يصحح ولايهدم، وهدم كيان الدولة أسوأ من العيش في ظل نظام فاسد.
ثورة ام إنقلاب؟
من الأخطاء التي يقع فيها مؤيدو الإنقلاب ، تسمية الإنقلاب ثورة وهو خطأ بديهي، المقصود منه إعطاء الشرعية للإنقلاب ، فقد قام الضباط اللذين قاموا بالانقلاب بتسمية انقلابهم ثورة لإعطاءها الشرعية اللازمة للإستمرار ولإيهام الشعب بأنه هو من قام بالتغيير.
كل يدعي الوصل بليلى وليلى لا تقر له وصالا
ماحدث في 21 أكتوبر 1969 انقلاب متكامل الأركان ولايمت إلى الثورة بصلة، فقبل الإنقلاب كان هناك نظام ديمقراطي فعال نتج عنه أول انتخابات ديمقراطية في أفريقيا وأول تداول سلمي للسلطة في القارة السمراء ، ورغم أن هذا النظام لم يكن مثاليا وكانت تشوبه الكثير من العيوب إلا أنه كان نواة لبناء دولة مدنية حديثة قادرة على خوض التحديات والعبور بالصومال إلى بر الأمان، ولكن تم اختطاف المشروع من قبل العسكر ووأد التجربة الديمقراطية الناشئة واغتيال حلم الدولة المدنية الحديثة.
يافؤادي لاتسل أين الهوى …..كان صرحا من خيال فهوى
كان الانقلاب هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى انهيار الحكومة المركزية في الصومال حيث تحول إلى نظام دكتاتوري استبدادي ألغى العقل والمنطق طغت فيه المحسوبية والمحاباة على الكفاءة وحسن الإدارة وكان هو السبب الرئيسي في ظهور الحركات المسلحة.
قبل الإنقلاب كان يتم التحكم إلى صناديق الإنتخابات كل 4 سنوات ومن يخسر الإنتخابات يستعد للإنتخابات القادمة بتصحيح برنامجه والتودد إلى الشعب وإقناعه بجدارته وأهليته للحكم.
قبل الإنقلاب كان هناك برلمان مستقل يحاسب الحكومة ويراقبها ويساندها بالتشريعات اللازمة لأداء المهام المنوطة بها. قبل الإنقلاب كان القضاء مستقلا وشامخا وكان له الفصل في القضايا المصيرية. قبل الإنقلاب كانت معظم التعيينات والترقيات تتم حسب الكفاءة المهنية والخبرة اللازمة.
في زمن الإنقلاب تم إلغاء الدستور وأصبح الحكم المطلق بيد عسكري لايعرف سوى إعطاء الأوامر ليتم تنفيذها بدون نقاش ومعاقبة من يتقاعس عن تنفيذ هذه الأوامر. في زمن الإنقلاب أصبح البرلمان عبارة عن مجموعة من الخياطين يفصلون القوانين بمقاس الحاكم الملهم الحاكم بأمره. في زمن الإنقلاب تمت محاربة الدين وأصبحت الشيوعية هي الدين الجديد للبلاد وتفشت الخلاعة والإنحلال، وتم قتل العلماء، وأصبح من يتجرأ على معارضة النظام مصيره الإعدام أو السجن حتى أصبح عدد السجناء السياسين أكثر من الجنائيين.
في زمن الإنقلاب صارت المحسوبية هي المعيار الأساسي لتولي المناصب حتى صارت بعض المناصب حكرا لمجموعة معينة مشهود لها بالولاء المطلق للنظام إما لقرابة الدم أو المصاهرة أو الصحبة. في زمن الإنقلاب انسدت جميع الآفاق في وجه النشطاء السياسيين (أو هكذا خيل لهم) فأشهروا السلاح في وجه الحكومة وطلبوا العون من الأعداء الأزليين للأمة الصومالية، وحين أيقن النظام بهلاكه لم يتدارك لإنقاذ البلد بل قاتل حتى اخر رمق.
إن لأنظمة التي تحكم بهذا الشكل مصيرها الهلاك وبزوالها تدخل البلاد دوامة من الفوضى وما أكثر الأمثلة في محيطنا العربي والإسلامي فاليمن وسوريا والعراق وليبيا أمثلة حية على هذا النوع من الإستبداد.
في خضم الحديث عن الإستبداد وحكم العسكر ، يحضرني كتاب “طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد” لعبد الرحمن الكواكبي ، ذالك الكتاب الذي كان عصارة جهد دام ثلاثين سنة قضاها صاحبه في دراسة الإستبداد وأسبابه وطرق التخلص منه.
في البداية يعرف الكواكبي الإستبدادَ لغةً بأنه: “غرور المرء برأيه. والأنفة عن قبول النصيحة، أوالاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة.” وفي الاصطلاح عند السياسيين هو: “تصَّرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف وتبعة.” ويصنف الكواكبي أشد مراتب الاستبداد: هي حكومة الفرد المطلق، والوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية. وكلما قل وصفٌ من هذه الأوصاف، خف الاستبداد.
في طبائع الإستبداد يشرح الكواكبي كيف يدخل الإستبداد جميع المجالات مثل الدين ، والعلم ، والمال ، والمجد ، والأخلاق ، والتربية….الخ.
لقد انطبق وصف الكواكبي للإستبداد على انقلاب ٢١ أكتوبر فدخل الإستبداد في جميع المجالات السياسية والإجتماعية والإقتصادية مما أدى إلى انقطاع عرى الأخوة بين أبناء الوطن الواحد، وتفشت القبلية والمحسوبية وتمت محاربة التعليم (أعني العلوم الإجتماعية والسياسية والفكرية التي تنير الدرب وتفتح آفاق المجتمع)، حتى عم الجهل وصار الرويبضة هم سادة المجتمع وعلية القوم فغرقت بنا سفينة الوطن.
كم أتمنى أن يرجع بي التاريخ إلى الوراء (٢٠ أكتوبر) لأحذر القوم من ذالك الإنقلاب المشؤوم المزمع القيام به صباح الغد ولأشرح لهم العواقب المترتبة على هذا الإنقلاب إن نجح.
{قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. سورة الأعراف (188)