فترة الحكم العسكري في الصومال مرحلة من مراحل تاريخنا السياسي وقد ولّت ولم يبق لنا منها الا ان نتدارس ونأخذ منها العبر والدروس دون قصد التشفي والانتقام. واذا كانت الامور بخواتيمها فلا شك ان خاتمة العسكر كانت وبالا وخرابا ولكن ينبغي الا يجعلنا ذلك ننكر ما للعسكر من إنجازات ونأخذ ما في هذه التجربة من عبر. جاء انقلاب الواحد والعشرين من أكتوبر لإزاحة الحكم عن حكومات مدنية فاسدة كان همها الأكبر الوصول الى السلطة فقط والبقاء فيها ولم تنجز شييا لتحسين معيشة المواطنين. لذلك لم يكن شييا غريبا ان خرج الشعب في مظاهرات مؤيدة للعسكر ان لم يكن حبا لهم فعلى الأقل كرها للنخب المدنية الفاسدة. فلا يلام على المريض ان يجرب أدوية مختلفة اذا أعيا الداء الأطباء.
فما قيمة ديمقراطية لا تطعم جائعا ولا تكسو عاريا ولا تعلم جاهلا ولا تداوي مريضا ولا تواسي فقيرا او محتاجا. ليست الديمقراطية توزيع صناديق انتخابات مزورة او غير مزورة على الشعب ولكنها تنمية شاملة لتحقيق الأهداف الوطنية المنشودة من تأسيس الدولة وترسيخ قيم الحرية والعدالة والمساواة. . فلا يوجد فرق كبير بين حكم عسكري مستبد وبين ديمقراطية شكلية ومفرغة مضمونها، بل قد تكون أسوأ من حكم عسكري لا يتغطى بغطاء الانتخابات. فالديمقراطية وسيلة وليست غاية. فهي وسيلة لتحسين معيشة المواطنين وليست غاية للتربع على السلطة تكسبا وارتزاقا. وقد قال الامام الشافعي قديما “من كان همه ما يدخل في جوفه كانت قيمته فيما يخرج منه” هذه المقولة تلخص سلوك معظم السياسيين في العالم الثالث، وكأن الدولة مصدر رزق لهم ولعائلتهم وأقربائهم وأصدقائهم وليست موسسة لخدمة الشعب. ولا يفهمنّ احد من قولي هذا انني مناصر لحكم العسكر، لا، وَاللّه فلا شي عندي أشد بغضا للإكراه والتسلط والاستبداد ولكنني كما أكره الاستبداد اكره التزوير وأحب تسمية الأشياء بأسمائها.
ومما يحزّ في النفس ويبعث فيها الاسى اننا وبعد محنة الحروب الأهلية وسنوات التيه وكاننا عدنا الى نقطة البداية ولم نستفد شييا من تجاربنا السياسية وشرعنا في تمثيل حلقات مسلسل الدوران والتسلسل نفسه الذي مثّلناه بعد الاستقلال. حكومات مدنية فاسدة لا يهمها الا جيوبها وبطونها ولا تفكر الا في تحقيق مصالحها الخاصة وشعب محبط فاقد للوعي السياسي مقسّم بين تأييد عصابات مدنية حاكمة فاسدة على السلطة واُخرى معارضة أكثر فسادا. فوجود الانقلاب العسكري متوقف على وجود حكومات مدنية هزيلة فاسدة ووجود الخراب والدمار متوقف على وجود طغمة عسكرية واندلاع الحروب الأهلية متوقف على وحود الخراب. وهكذا الامر مكانك در ومحلك سر كما يقال في التدريبات العسكرية. فكل حلقة من حلقات هذا المسلسل تفضي الى الحلقة التي بعدها.
ما البديل إذن؟
لقد جربنا ديمقراطية زائفة وعصابات مدنية حاكمة وأحزابا قبلية وجربنا ايضا حكما عسكريا متسلطا مستبدا يخرب ما بناه بأيديه، فلا العصابات المدنية انحزت شييا ولا الحكام العسكريون حافظوا على انجازاتهم بل اورثونا خرابا. فلما ذا نعيد نفس السيناريوهات؟ ولماذا نشاهد حلقات مسلسل شاهدناه من قبل؟. والبديل – يا قوم- هو تشييد نظام سياسي يستند على دولة المؤسسات وليس على نزوة الأفراد، دولة المواطنين وليس نظام المحاصصة القبلية، دولة مدنية حديثة ديمقراطية. والديمقراطية التى نطمح اليها ليست ديمقراطية صورية لا تحمل من معاني الديمقراطية الا شكلها ورسمها وانما هي مسار سياسي ثقافي لتحقيق قيم الحرية والعدالة والكرامة الانسانية. فالطريق طويل وشاق ولكن لا بد منه اذا أردنا السلامة وهو أفضل من طريق معبّد سلكناه من قبل فلم نجن منه الا الشوك ولا تجرعنا منه الا الصاب والعلقم.
واذا تعذَّر علينا تشييد دولة مدنية حديثة تتجاوز الانتماءات العصبية فليس عيبا ان نعود الى النظام القبلي الذي عرفناه من قبل ونسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية فيكون عندنا زعيم القبيلة الفلانية بدل رييس حاكم دولة بني لاند الحالية ونستبدل مجلس أعيان القبيلة بمجلس الشعب حتى نصل الى مرحلة نشعر فيها اننا امة في حاجة الى نظام سياسي يتجاوز هوياتنا القبلية ويراعي مصالحنا كأمة لها مصالح واهداف مشتركة لا يمكن تحقيقها الا بمؤسسة سياسية عامة تمثل إرادة مواطنيها ومصالحهم العامة.