في شهر رمضان ، كانت نكهة الطعام تختلط مع نفحات الإيمان وتمتزج مع صفاء القلوب وصوت القراء في صلاة التراويح ورائحة الطعام ، وتتألق بنور الصيام والقيام ، والورد والذكر ، وتعرف بشهر الصدقات والبركات ، وتختتم بشراء آخر صيحات الموضة من الملابس ، وكنا نطلق على الملابس الجديدة اسما لم أسمع به مند زمن طويل وهو ” Eestaro” وكانت تفوح من تلك الملابس الجديدة ” Eestaro ” رائحة خاصة تنعش الروح والقلب ، وكان للخبز يومها رائحة جميلة أيضا ، وكان للطعام أيضا رائحة تشم من مسافة بعيدة .
كان الناس يقفون أمام المسجد بعد صلاة المغرب وينظرون للسماء ويحاولون رصد هلال شهر رمضان ، وعندما يتم رؤية الهلال يعلن الشيخ بأن غدا هو أول أيام شهر رمضان وغرة رمضان في ذالك العام الهجري ، فتبدأ الأمهات والأخوات بإعداد السحور ، وفي وقت السحور كان يتجول بين البيوت رجل عجوز يصرخ بأعلى صوته ” السحور السحور ” ، وربما يطرق الأبواب والنوافد ويوقظ النائمين ، فيوقظ الجميع صغارا وكبارا ، وعندها يأكل الناس طعام السحور .
وقد كانت العادة في كل البيوت أن يأكل البالغون القمح أو الشعير ، ويعتقد الناس بأن هذه الأطعمة خير زاد للصائم ، ثم يأكل المرء عدة حبات من التمر ويشرب شيئا من الحليب ثم يشرب عدة أكواب من الماء ، ويتوضأ ويذهب لمسجد الحي.
ولا يفتح في نهار يوم رمضان المقاهي والمطاعم ، ويخجل الرجل وإن كان مسافرا أو عابر سبيل أو مريض أن يشتري علبة ماء من الدكان ، ولا تشرب السيدات اللاتي لهن عذر الماء والشراب في الأسواق والمحلات.
وفي أول أيام رمضان يستضيف صاحب البيت شخصا صائما صالحا نقيا تقيا من جماعة المسجد ليفطر معهم في البيت ، ويشرف مائدتهم ومجلسهم ، ويرى الناس في هذا بركة وكرامة ينال بها أهل البيت من الله فدعاء المسلم حين يفطر مستجابة ، ومن أفطر مؤمنا وأطعمه وسقاه حلت عليه الخيرات والبركات.
ويخبر صاحب البيت هذا الضيف مسبقا أن أهل البيت كلهم في خدمته وتحت أمره أثناء شهر رمصان ، بل ويترجاه بأن يقبل منه هذا الطلب – أن يشرف مائدة العائلة بحضوره – وربما يأتي للرجل الواحد عدة رجال وكل واحد منهم يطلب من الآخر أن يسمح له بإكرام هذا الضيف العزيز في شهر رمضان ، فقد جرت العادة بأن المائدة المباركة ليست المائدة التي يتشارك فيها أهل البيت وحسب ، وإنما هي المائدة التي يشرفها واحد من الصالحين الصادقين مع أهل البيت ثم يدعو لهم كل ليلة ” أفطر عندكم الصَّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلَّت عليكم الملائكة” وكانت الدعاء تحل بردا وسلاما على أهل البيت وتكون بركة في رزقهم ومأكلهم ومشربهم وصحتهم وسترهم ، كان الجميع يحاول أن يكون ضيف الرحمن في بيته في شهر رمضان !!
وفي الظهيرة يمكث الرجال في المسجد لتلاوة القرءان ثم ينام البعض في المسجد عند وقت القيلولة ، فالناس بين نائم على عمامته أو وسادته وبين قارئ للقرءان أو ذاكر لله ، بينما لا تنام الفتيات والأمهات ويعملن بإعداد السمبوسة أولا ، وهذا يتطلب عملا صعبا وشاقا ، وغفر الله لأمهاتنا وإخواتنا فقد كن يجلسن في المطبخ لساعات ، ، ويتصبب العرق من وجههن والإبتسامة في وجوههن ، ثم يسهرن الليالي لإعداد السحور ويذهبن لصلاة التراويح والتهجد للمساجد ، ويقمن بإعداد الفطور للأطفال صباحا ، وتحضير الغداء للصغار ظهرا ، ثم تجهيز الطعام للصائمين من وقت القيلولة حتى آذان المغرب.
وقد كانت بعض الأسر الميسورة تحمل للمسجد التمر والسمبوسة ، والماء العذب البارد ، والبطيخ ، وأنواع مختلفة من الكيك مصنوعة بشكل قطع صغيرة ، وأنواعا مختلفة من عصير الفواكه ، وترسل الأمهات هذه الأطباق إلى المساجد فيحمل الأطفال والشباب من تلك الأسر هذه الأطباق إلى المسجد ، ويقومون بتوزيعها للناس ، فيضعون أمام كل صائم قطعة من البطيخ وسمبسوسة وكوبا من العصير وكوبا من الماء ، وحبات من التمر يمسك بها بيده بعد أن يغسل يده من ماء يصب عليه الصغار والأطفال ، وينتظر الجميع أن تغرب الشمس ويؤذن المؤذن ، وحينها يفطر الجميع وترى الصائمين في حلقات حول المسجد ، بعضهم يجلس على الأحجار وهناك من يأكل قائما ومن يشرب الماء قاعدا ، وآخرون يفطرون وهم في حلقة مستديرة ، ويفطر الأطفال أيضا معهم ، فمن شاء أفطر في بيته ومن تكاسل بأن يفطر في بيته ثم يعود للمسجد ويصلي صلاة المغرب ، يفطر في المسجد ثم يذهب لبيته وهو لا يشكو من جوع ولا من عطش ، فقد أكل ما يرطب ريقه ويسد بطنه وفي البطن متسع لإستقبال ما تفننت السيدات بإعداده.
وفي المساء تعد أطباق الحلويات الشعبية مثل حلويات الكاسترد وتضع السيدات الماهرات فوق حلويات الكاسترد قطعا من البطيخ والموز والعنب ، وتعد أيضا الثمار والفواكه وعلى رأس تلك الفواكه البطيخ فهو سيد الفواكه في شهر رمضان بلا منازع ، ويكثر في الأسواق في شهر رمضان ويكون ثمنه رخيصا جدا والطلب عليه كثيرا ، وألذ أنواع البطيخ : البطيخ الذي يأتي من بلدوين ، والذي ينمو في مزارعنا في الشرق ليس لذيذا كما هو حال بطيخ مدينة بلدوين ونواحيها.
ومما لا تخلو المائدة الصومالية في شهر رمضان فاكهة البطيخ ، والتمر ، والماء البارد ، وحلويات الكاسترد ، والموز ، واللحوح ” العنجيلا ” والملوح ” Malawax” ، أو الأرز الباسمتي الفاخر مع اللحم والزبيب ، وربما أكل الأهل الموفو في بعض الليالي ، وصنع عجين الموفو لا يتقنه في الشرق إلا القليل من السيدات ، ويحب البعض أكل الباستو في بعض الليالي وعلى رأس أنواع الباستو ” المعكرونة ” فهي طعام خفيف ولذيذ إن صنعته أيادي ماهرة في الطبخ ، ويقدم للعائلة في بعض الليالي رغيف مصنوع في البيت بمهارة ، أو خبز تم إعداده في المنزل ، والخبز الذي تصنعه الأمهات أجمل وأحلى من الذي يشتريه الناس من الخباز والفرن ، أو شطائر صنعت للأهل والضيوف خصيصا.
ومن التقاليد أكل بر شيشيل ” Bur shiishiil” ، وسلطة الخضار وتضع عليها بعض السيدات قطعا من البيض وأنواع مختلفة من الخضار والليمون ، وتكون الأطباق متعددة متكاملة من حيث المواد الغدائية ، وتزين على تلك الموائد إبريق القهوة المزخرف والمصنوع بشكل جميل ، وأجمل إبريق للقهوة هو المستورد من الخليج فهم أصحاب القهوة بلا منازع تقريبا ، ويتم بعناية إختيار نوع وشكل فنجان الشاي حتى يكون أنيقا ولائقا بالمائدة ، ويوضع على المائدة أيضا عصير الفواكه ، وفاكهة الموز ، والعنب ” الزبيب المجفف ” ، ولا تخلو تلك الأطباق الشهية من شرائح اللحم ، ومن السمك في بعض الأحيان ، ويكون الخل وشراب الفيمتو وأطباق الحلويات الحمراوية ، وعصير الجوافة والكركديه والتفاح متوفرا أيضا ، ولا أنسى أبدا اللحم المفروم بواسطة أداة الفرم ، واللحم الصومالي المصنوع بالطريقة الصومالية مع أكواب مرق اللحم ، وإعداد الشني ” Shiniga ” وهو مزيج من التوابل مع الفلفل الأخضر والتمر والبصل يتم صناعته بطريقة صومالية خاصة ، والشني لا يتغير لأيام وإن كنا نحن الصوماليون لا نأكل اليوم شيئا صنع بالأمس وإن لم يفسد ولكنه صالح للإستخدام مرارا وتكرارا
وتكون المائدة الصومالية في أكثر لحظاتها جمالا وذوقا ونكهة وطعما وشهية وتعددا وتنوعا في موسم رمضان ، ويستغرق إعدادها وقتا طويلا وترتيبا خاصا ، ولا يتم تكرار الوجبات كلها يوميا بل يتم تغيير بعض الأطباق كل يوم ، وإضافة أطباق جديدة لها وصفات ساحرة للمائدة في كل ليلة من ليالي رمضان ، وذالك للتسلية والترويح عن النفس.
وتحب العائلات العريقة أن يأكل الناس طعاما خفيفا في أول الأمر ، ويسمى ” Af-bilaw ” ومعناها ” ما قبل الوجبات ” ويصلي المرء صلاة العشاء والتراويح وليس في بطنه حمل ثقيل ، ثم يعود إلى البيت فيأكل من تلك الأطباق ما شاء ، وفيها ما لذ وطاب ، ثم يظل مستيقظا بعض الشيء فلا ينام بعد الأكل مباشرة وذالك أفضل للصحة كما يقول الأطباء ثم يخلد المرء للنوم ، وكان الناس مفتونين في متابعة برنامج المسابقات العلمية في شهر رمضان عن طريق الراديو ، وكان من أشهر تلك البرامج ” Kadiska Ramadaanka ” و ” Tartan iyo tacliin ” وكنا نستمع إلى الأناشيد في لحظات ” فواصل ونواصل ” للبرنامج الجميل.
وفي العشر الأواخر من شهر رمضان تصل السفن للميناء ، وتنقل البضائع للمدن والقرى والأرياف ، وتستولي على الأسواق الملابس وألعاب الأطفال ، وتشهد معارض الملابس إقبالا كبيرا. وإذا رميت حجرا نحو الهواء في وسط السوق فإنه لا يقع على الأرض وإنما يقع على رأس أحدهم ، وذالك لكثرة الزحام والناس والزبائن في السوق ، ولا يكون بمقدور أي سائق أن يمر وسط السوق في تلك الأيام ، وتمسك الأم بيد أحد أبنائها ويشبك الأبناء أصابع بعضهم بعضا ؛ وذالك حتى لا يضيع واحد منهم ، وتقف الأم تحت أشعة الشمس الحارقة وهي صائمة تشتري لأولادها أجمل الملابس ، فيرفض الأبناء بعض الملابس فتختار لهم ملابس جديدة. تجوع الأم من كثرة المشي وإقناع الأطفال وهي صائمة ولكنها لا تغضب من أطفالها ، ويكون عمل الأم إعداد الطعام من جهة ، وشراء الملابس للأطفال من جهة أخرى ، وتقوم بكل هذه الأعمال وهي صائمة ولا تمل ولا تكل ولا تشكو وإنما تبتسم وفي وجهها علامات الرضى.
وكنا نشاهد في ليالي رمضان المسلسلات التاريخية ونقلد الأبطال ونصنع لأنفسنا سيوفا من خشب وندعو الخصم للمنازلة في الميدان، وكنا نتحدث عن حربة الوحشي وشجاعة حمزة وخبث مسليمة وقوة علي وذكاء خالد ، ونتحدث في رمضان آخر عن شجاعة الشاعر عنترة وعن عشقه لإبنة عمه ، ونخطط لفكرة رمي الأحجار على البيوت واحدا تلو الآخر والجلوس أمام البيوت بعد أن نقلق عليهم الأبواب ، ثم نركض بعد أن يقفز أحدهم من فناء الدار أو يفتح الباب بعنوة ، وقد يمسك أحدنا فيشي بنا جميعا ، ثم يشكو الناس منا لأهلنا ، وأحيانا نختفي جميعا بين الجدران والحيطان ونطلب من أحدنا أن يتعرف على أماكننا ويهتدي إليها رغم الظلام الموحش ، فيركض ويركض ثم يعثر على أحدنا فيكون على هذا أن يحل محله ويبحث عنا ، وربما ركضنا حوله فإذا أمسك أحدنا فاز وكان على هذا أن يركض ويمسك بياقة أحدنا أو يلمس شعرة منا
وكان الآباء يعتكفون في المساجد في العشر الأواخر من شهر رمضان ، وينقطعون للعبادة ويعتزلون الحياة ومشاغلها ، ويقضون وقتهم بين الصيام والقيام وتلاوة القرءان والذكر ، والإستماع للمحاضرات ، والإنصات لكلام جماعة التبليغ من باكستان في المسجد ، ويقولون ” دعنا نجدد إيماننا ” ويتم جلب الطعام لهم فيأكلون معا من هذا الصحن وذاك ، ويتعاهدون على الخير والدعاء ، ويتركون القيل والقال واللهو.
وكانت تقام في شهر رمضان مسابقة القرءان الكريم ، ويكون أعضاء التحكيم من أحسن الناس صوتا وأعلمهم للتجويد وعلوم القرءان ، ويذهب الذكور للمسجد ، وتتابع الفتيات والسيدات المسابقة من إذاعة القرءان الحكيم ، ونتعرف على أسماء المتسابقين والمدارس التي يمثلونها ، ويأتي يوم الجوائز فيكون فوز الطالب بالجائزة نجاحا باهرا له ولأهله ومدرسته ومعلمه ، وكان المسجد يمتلئ من أوله إلى آخره والكل بشوق يستمع للقرءان الكريم ، وكان أغلب الأطفال حفظة لكتاب الله
وهكذا كانت شهر رمضان في أيام الخير.