توفي الدكتور الشيخ القرضاوي في ٢٦/٠٩/٢٠٢٢ عن عمر يناهز مائة عام، بعد حياة حافلة بالدعوة والجهاد، مالئا الدّنيا بعلمه وفقهه، شاغلا النّاس بخطبه وحواراته ولقاءاته ومواقفه المشهودة. كان كتاب (الحلال والحرام) أول قراءة لي للشيخ القرضاوي، فأعجبت بأسلوبه وبالموضوعات التي عالجها، وفيها موضوعات كثيرة لها علاقة مباشرة بواقع حياة المسلمين في الغرب، من أحكام ذبائح أهل الكتاب ومعاملاتهم، إلى أحكام الربا وشركات التأمين، وغير ذلك من موضوعات الحلال والحرام التي تناولها الشيخ في كتابه مفصلة مدعّمة بأدلتها من الكتاب والسنة. وقد سلك الشيخ في الكتاب مسلك التيسير، وبأسلوب واضح، لا لبس فيه ولا غموض ولا تعقيد، يفهمه المثقف الظالع، ويفيد المتخصص الضليع (ولا يدرك الظالع شأو الضليع). ولا يتقن هذه المهارة أي مهارة تيسير العلوم، وعرضها بلغة يفهمها غير المتخصص إلا من غاص في غمارها، وتعمق في أسرارها، وأدرك ظاهرها وباطنها، وأوتي الحكمة، وفصل الخطاب، وسحر البيان. وكان شيخنا القرضاوي -رحمه الله – ممن منّ الله عليه بهذه الخصائص والمزايا، فوظّفها في نشر العلم أحسن توظيف، واستغلّها في بثّ الخير ايّما استغلال.
لم يلتزم الشيخ مذهبا من المذاهب الفقهية في مسائل هذا الكتاب، وإنما اجتهد واعتمد على الدليل. يقول في مقدمة كتابه: “أجل، لم أحاول أن أقيد نفسي بمذهٍب فقهيٍ من المذاهب السائدة في العالم الإسلامي ، ذلك أن الحق لا يشتمل عليه مذهب واحد، وأئمة هذه المذاهب المتبوعة لم يَّدعوا لأنفسهم العصمة، وإنما هم مجتهدون في تعرف الحق، فإن اخطأوا فلهم أجر، وإن أصابوا فلهم أجران” (١). وقد تعرض كتابه هذا إلى نقد بعض العلماء التقليديين، الذين رأوا في منهجه خروجا على المذاهب المتبعة، كما جاءته السهام من بعض التيارات الاسلامية التي تنحو منحى التشدد، فاتهموه بالتوسع والتساهل في تقرير الأحكام، حتى قال قائلهم: ليس هذا (الحلال والحرام في الإسلام) وإنما هو (الحلال والحلال في الاسلام ! ) فردّ عليهم الشيخ -رحمه الله- بأسلوبه الذي لا يخلو من الطرافة: فإن كنت انا كتبت الحلال والحلال في الاسلام كما تزعمون، فاكتبوا أنتم لنا الحرام والحرام في الاسلام ! في إشارة لطيفة إلى ما يراه فيهم من التشدد والغلوّ.
كان الشيخ القرضاوي عالما بحرا، وفقيها مدققا، ومفكرا واعيا، وداعية نشطا، وأديبا بارعا، وخطيبا مفوّها، ومنظّرا واسع الأفق، ومثقفا واسع الاطلاع، وقلّما تجتمع هذه المواهب في آحاد الناس، فكانت هذه المواهب المتعددة تظهر واضحة جلية في كتاباته ومحاضراته وخطبه. كنت أتابع بعض حلقاته في برنامج (الشريعة والحياة) الذي تبثه قناة الجزيرة، فيشدّني اليه بلاغته في القول، وتدقيقه في المسائل، وشجاعته وجرأته في قول الحق، فتغلب عليه احيانا نزعته الخطابية، فيتدفق تدفق السيل الهادر، وتجيش عواطفه، تغلي كالمرجل، فيهزّ المنبر، ويرتجّ الاستوديو بصوته المجلجل، فيخلب القلوب، ويأسر العقول، ويدمي الأكباد، ويدمع العيون، ولا سيما حينما ما يعبر عن مواقف لها صله بظلم الحكام المستبدين، وما تتعرض له الشعوب الاسلامية في العالم من ظلم واضطهاد، فلا يكاد يملك نفسه من شدة الغضب، ثم يهدأ فيعود الى طبيعته الفقهية الهادئة، فيدقق ويفصّل ويؤصّل، فكان موفّقا في حالتيه، مراعيا لمقتضى الكلام ومقاماته في جميع الأحوال.
ومن فتاواه التي أثارت جدلا كبيرا فتواه الشهيرة بجواز شراء منازل للسكن لمن يقيم في الغرب من المسلمين بقروض ربوية بشروطها وضوابطها المنضبطة على قدر الضرورة، وتعرضت فتواه تلك لانتقادات كثيرة، ولكنه لم يتراجع عنها، وبقي مصرّا على موقفه الذي رآه يحقق مصلحة المسلمين في الغرب، ويدرأ عنهم أضرارا تلحق بهم وبوجودهم في تلك البلدان. فالفقه عند الشيخ ليس نصوصا وأحكاما مجردة جاهزة للتطبيق في جميع الأحوال والظروف والسياقات، وانما كان يربط الفقه بالواقع والحياة، لذلك سعى في بعض كتاباته الى الاهتمام بفقه الواقع، اِذْ أنه كان يدرك صعوبة تطبيق الشريعة الاسلامية دون فهم واقع الامة التي تطبق عليها، وفتواه التي اسلفنا ذكرها كانت انموذجا حيا لسعيه هذا، فهو لا يطلق الفتاوي جالسا في محرابه، وإنما يسير في مناكب الارض، راحلا، زائرا المجتمعات الاسلامية في اقطارها المختلفة، دارسا أحوالها، مستخبرا الصعوبات والتحديات التي تواجهها، ثم يصدر فتاويه حسب ما توفر لديه من المعلومات، وما استقر عليه رأيه بعد التتبع والاستقراء والتفقد.
لقد استمعت إلى برنامج (أسمار وأفكار) وقد أفرد حلقة خاصة بوفاة الشيخ القرضاوي بعنوان (القرضاوي المحدد: ذكرى وتأبين) (٢) فأحسن المشاركون القول، وأفادوا، وأدّوا بعض ما للشيخ علي طلابه من حق الوفاء. وقد لفت الدكتور محمد مختار الشنقيطي في كلمته: أن هناك شبها قويا بين شيخنا القرضاوي، وبين الإمام ابن الجوزي، من حيث كثرة التصانيف، والصبر على مشقة التأليف، والجمع بين العقلية الفقهية، والنزعة الأدبية، وبين العلم والوعظ والعمل والدعوة. فهذه لفتة لطيفة من الدكتور، وملاحظة جميلة من ملاحظاته الدقيقة. ولقد وقع في خاطري وأنا استمع الى مداخلة الدكتور أن للشيخ القرضاوي شبها أقوى بالامام ابن تيمية، فهو يشاركه في جميع أوجه الشبه مع ابن الجوزي، ويزيده في مواقفه المشهودة مع قضايا المسلمين المصيرية، فكلا الرجلين -أي ابن تيمية والقرضاوي- كانت لهما مواقف مشهودة في الشأن العام، وفي القضايا المصيرية للأمة، يقفون الى جانبها في مواجهة الأخطار الخارجية، والطغيان الداخلي، والظلم الاجتماعي، والاستغلال الاقتصادي، فكان لديهما -عدا ما يتمتعان به من العلم الغزير والفقه المكين- وعي مكّنهما من التتبه للأخطار المحدقة بالأمة، وعملا على درءها بالوسائل المتاحة على قدر الطاقة، لذلك ابتلي كلاهما بالتضييق والحبس والتشهير والتشويه من السلاطين ومن علماء السلاطين في زمانهم.
كان الشيخ القرضاوي اتخذ لنفسه مذهب الوسطية، الذي ليس هو وسط بين الحق والباطل، وإنما هو وسط بين الإفراط والتفريط، وبين الغلوّ والتقصير، فدخل ساحة المعركة من جبهتين كبيرتين: جبهة الإفراط المتمثلة في التيارات المتشددة الغالية، التى بلغ الامر بها، أن خرجت على الجماعة، وكفّرتها، واستباحت دماءها، وجبهة التفريط التى تنكرت لجذورها وأصولها وتراثها، وزهدت في قيم دينها، فبحثت عن النهضة والتقدم في تراث غير تراثها، وفي حضارة غير حضارتها، وفي جذور غير جذورها، وفي تربة غير تربتها، فضلت طريقها، ولم تطق العودة الى جذورها. وكتب الشيخ في مقدمة كتابه “في فقه الدولة في الإسلام” مبيّنا ما يعنيه بالوسطية: “وبين هؤلاء العلمانيين المتحللين من عُرا الإسلام، وأولئك الجامدين الغائبين عن العصر: يقف تيار «الوسطية الإسلامية» الذي يأخذ الإسلام من منابعه الصافية، ويؤمن بأنه منهاج كامل للحياة، للفرد والأسرة والمجتمع والدولة. وهو ينظر إلى الإسلام بعين، وإلى العصر بعين، يجمع بين القديم النافع والجديد الصالح، ويلتزم بالسلفية المجددة، ويوازن بين الثوابت والمتغيرات، ويدعو إلى احترام العقل، وتجديد الفكر، والاجتهاد في الدين، والابتكار في الدنيا، ويقتبس من أنظمة العصر أفضل ما فيها، ويرى أن الديمقراطية أقرب ما تكون إلى الإسلام، بعد أن تنقى من بعض ما بها من شوائب، وأن تطعم بما ينبغي من قيم الإسلام وأحكامه”. (٣).
وقد وجهت الى الشيخ من اجل منهجه هذا سهام من جهات مختلفة المشارب، متعددة المآرب، متنوعة الاتجاهات، ولكنها متفقة في الهدف والغاية، فرموه من قوس واحد، حتى كأن جسم الشيخ اعتاد النبال، من كثرة ما تلقاها، فتكسّرت النضال على النضال، فصار لا يبالي بها، ولا يلقي لها بالا. ولا بد من التأكيد هنا انه لم تكن جميع الردود على الشيخ ذا قيمة واحدة وعلى غرض واحد، اِذْ كانت بعضها من علماء كبار لهم وزنهم العلمي، اختلفوا معه في بعض المسائل والفتاوى، فناقشهم الشيخ مناقشة علمية تليق بمكانتهم، محترما رأيهم، مع حق الاحتفاظ برأيه، بينما كان بعضهم الآخر بنتقده بقصد النيل والتشهير، فغضّ الطرف عنهم ولم يجبهم. لم يكن الشيخ القرضاوي وسطيا في منهجه الاسلامي فحسب، ولكنه كان كذلك وسطا بين الجماعات، فهو وإن كان محسوبا على الإخوان فكريا، اِلّا أنه خلع عنه عباءة التنظيم منذ زمن طويل، فكأنه شعر أنها تضيق به، وبما يطمح اليه من وحدة الأمة وجمع كلمتها.
قد رشحوك لأمر لو فطنت له .. فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
فقد ادرك الشيخ مبكرا مهمته، واستعدّ لها الاستعداد كله، متعاليا عن سفاسف الامور، طامحا الى معاليها.
فهو في طبيعته وحدوي يسعى الى التوحيد والتأليف، ما استطاع الى ذلك سبيلا؛ ويظهر ذلك جليا في أعماله، ومواقفه، وجهوده في إنشاء المراكز العلمية، والمجالس الفقهية، والهيئات العلمائية التوحيدية التي كان آخرها (الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) الذي جمع كوكبة من علماء الاسلام، بمختلف اقطارها، ومشاربها، ومذاهبها، وتياراتها. وقد كانت له جهود جبارة في التقريب بين السنة والشيعة، ولكنه تراجع عنها بعد ثورات الربيع العربي، وما أعقبها من الاضطرابات، والفتن، والتشاحن، واندلاع الصراع الطائفي، والتناقض بين المصالح السياسية، ومصالح الطوائف المذهبية والدينية، فأدى ذلك كله بالشيخ الى التراجع عن فكرة التقريب، وقطع شعر معاوية مع الشيعة، الذين اتهمهم بالاصطفاف مع الطغاة ضد ثورات الشعوب. وكنت أود لو أن الشيخ ابقى هذا الحبل موصولا، مهما كانت التحديات والعقبات والأزمات، فإن هذا أقرب الى منهجه في الاحتواء والتوحيد، ولكن الثورات دائما تقلب الاوضاع، وتغير المواقف، وتعيد تشكيل الرؤى.
لقد كان الشيخ القرضاوي رجلا بأمة، اجتمعت فيه حسنات ما تفرق في التيارات الاسلامية الاخرى، فتجد فيه روح السلفية الاصلاحية، وشمولية الإخوان، وطهرانية السلفية، وإخلاص الصوفية، وكلام الأشعرية، فهو إخواني، سلفي، أشعري، صوفي. فقد كانت المذاهب فقهية كانت او عقدية تضيق عنه، فنسج لنفسه سربالا فضفاضا، يضم تحته هذه المذاهب والتيارات كلها، ولم يسعه إلا الإسلام، فمنه منهله، واليه مورده ومصدره. وكان الشيخ أزهري التعليم والتكوين، فهو قد ورث عن الازهريين جدّهم وصبرهم على البحث والتنقيب، ولكن نفسه الأبية لم ترتح لطبيعة علاقتهم مع السلطات، فانتقل منهم الى فضاء أرحب واكثر حرية، على أنه بقي في حياته الطويلة وفيّا للازهر، وقبعته، وعمامته، وجبته، وقفطانه، فهو كان خير من يمثل الأزهر وعمامته في جميع المحافل. وقد كان بمقدوره ان ينزع عنه هذه العمامة، ويرميها في البحر طعمة لأسماك القروش، كما فعله غيره، وما منعه ذلك إلا وفاءه لشيوخه وأساتذته، واكباره لمقام هذا الصرح العلمي العظيم، وكنا نتوقع من الازهر ان يبادل هذا الوفاء بوفاء مثله، ويردّ التحية بأحسن منها، ويقول كلمة تعزية وداع في حق شيخ شبّ وشاب داعيا الى الله، معتما بعمامة الأزهر، ولكن آمالنا قد خيبت، وقد بخل الأزهر على ابنه الوفي وشيخه المفضال بكلمة وداع أخيرة، تكتب لهم في سجلات التاريخ؛ شهادة لهم على بقاء الوفاء بين العلماء مع اختلافهم في الرؤي والمواقف، ديدن العلماء الربانيين، على مدى تاريخ الحضارة الاسلامية العريقة. زلّ الأزهر زلّة عظيمة، وكبا كبوة ستخلد في بطون الكتب الى يوم الدين، وتروى في أسفار غرائب الأخبار في عجائب الأحبار. تبّا للسلطة! فكم أذلت قوما، وجعلتهم مطية لشهواتهم واهوائهم!. عجبا لتعازي الأزهر، فانها تسع بابا الفاتيكان، وتضيق على الشيخ القرضاوي !
رحم الله الشيخ القرضاوي، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه الله عمّا قدم لدينه وأمته خير الجزاء. فقد اعطاه الله الشيخ عمرا طويلا عريضا، وأنفق هذا العمر الطويل العريض في سبيل الله وفي خدمة دينه، وجعل حياته كلها صدقة جارية لله في محياه وفي مماته، ونذر نفسه للدفاع عن دين الله وقضايا الامة، رافعا الراية في كل ثغر، وفاضت روحه، وهو مصلت سيفه، ونرجو ان يلقى لله وهو حاملها، تشهد له أنه أخذه بحقها حين رماها الناس. من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.
عبدالواحد عبدالله شافعي.
المراجع:
١-القرضاوي، الحلال والحرام في الاسلام (القاهرة، مكتبة وهبة ٢٠١٢) ص١١.
٢-المجلس التاسع والاربعون بعد المائة من مجالس أسمار وأفكار، تم بثه في ٣٠/٠٩/٢٠٢٢ عبر قناة اليوتيوب، بمشاركة نخبة من المفكرين.
٣- القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام (القاهرة، دار الشروق، ٢٠٠١) ص٩.