رايت بعض الاخوة من بني وطننا يتذمرون كلما سمعوا من يضرب بلدنا الحبيب مثلا للبؤس والدمار والخراب، خاصة ادا جاء هذا الكلام على سبيل المقارنة مع دول تشتعل فيها نار الحروب، مثل سوريا واليمن وليبيا، وأصابها خراب ودمار مثل الخراب الذي اصابنا. والهدف من ضرب الأمثال هو الإيجاز دون إخلال للمعنى المراد، فالصوملة تفي هذا الغرض احسن وفاء. ويحتج هولاء الاخوة بان احوال بلادنا قد تحسنت في الأعوام الاخيرة، وان حدة المعارك قد خفت، ويؤذيهم ان يكونوا دايما مثالا سيئا لبلدان قد تكون فيها الاضطرابات اشد، وحدة الصراعات امرّ، ويوذيهم ان تصبح الصوملة رمزا للفوضى والاقتتال وعدم الاستقرار.
في هذا الكلام قدر من الصواب، ولكنه في الوقت نفسه يتضمن قدرا كبيرا من المغالطات. وقد يؤذينا هذا الكلام، ولكن ليس كل كلام مؤذ ببعيد عن الحقيقة. صحيح، ان احوالنا في تحسن، ولكننا لم نصل بعد الى حالة يمكننا معها ان نلوم الناس على تصورهم السيئ لاحوال بلدنا، او ان نطالب وسائل الاعلام بتغيير نهجها في تغطية اخبارنا. ان تتشكل صورة نمطية سيئة عن بلد معين ليس شييا سهلا، وياخذ وقتا طويلا لتترسخ هذه الصورة في اذهان الناس، ولا يمكن تشكل هذه الصورة دون لقطات مساعدة في تثبيتها، وممارسات على الارض توكد صدقها.
واذا اردنا ان نغير هذه الصورة، فلا بد من العمل الشاق وإظهارنا للعالم صورة اخرى مختلفة للصورة الذهنية السابقة في مخيلتهم الجماعية، فهل نحن أظهرنا هده الصورة بعد؟ لا اظن، لقد خفت حدة الحروب ولكنها لم تتوقف، وشبح عودة الحروب ليس بمستبعد، لان الاسباب الحقيقية لصراعاتنا السابقة لم تحل بعد، بل تم القفز عليها وتغطيتها، استغفر الله، بل داوينا أزمتنا بالداء الذي كان سببا لبدايتها، ومن داوى داءه بدائه فلا يرجى شفاؤه. فكيف نلوم الناس على تشويه صورتنا، ونحن لا نألوا جهدا في تشويهها؟ فكيف نتوقع احترام الاخر، ونحن نتقاسم مناصب الدولة على محاصصات قبلية، تقاسمنا اجزاء الناقة؛ فالرأس للرأس، والسّنام للسّنام والذنب للاذناب، والبطن والأمعاء للبطون الاخرى وهلم جرا. افبهذه العقلية نشتكى من ضرب الأمثال لصوملتنا لنكون عبرة لمن يعتبر؟
أزمتنا مع الدولة الحديثة بدأت من تصورنا للدولة كناقة للاحتلاب، وليس كمؤسسة لمصلحة الجماعة، حياة القبائل قبل الدولة كانت تقوم على الغزو والسلب والغنيمة، اي سلب وغنيمة ابل القبائل الاخرى، اما بعد الدولة فقد اجتمعت الإبل كلها في ناقة واحدة، جهد اقل ونفع اعم، فمن حاز على الناقة حاز الدنيا كلها، لان الجمال كلها في جوف الناقة، وكل الصيد في جوف الفرا.
هولاء هم الروانديون، تقاتلوا كما تقاتلنا، بل ان صراعهم كان ابشع، ومصيبتهم كانت اشنع، ولكنهم تجاوزوا ذلك كله بعقل وبحكمة، وأسسوا لهم نظاما سياسيا يقوم على أساس المواطنة، وليس على أساس القبيلة الذي كان سببا لسقوط الدولة كما فعلنا نحن، بل علاوة على ذلك كله، وضعوا قانونا لتجريم القبلية، فلا رؤوس ولا سنان ولا اذناب هناك، بل كلهم مواطنون متساوون، وأيقنوا انه ليس هناك منتصر ومهزوم في الصراعات القبلية، وان العالم لن يعمل شييا لإنقاذهم من الإبادة والمجاعة والتشرد والانقراض، فكانت الإبادة سببا لتعقلهم وتيقظهم، فتصالحوا مصالحة حقيقية قايمة على اعتراف الاخطاء والجرائم، ثم تصافحوا وقالوا عفا الله عما سلف وأصبحوا اخوانا مواطنين متحابين.
وفي غضون سنين قلائل تحولت كيجالي عاصمة رواندا من مدينة اشباح تغطيها عظام الموتى وأنهار الدماء، الى جنة من جنات الدنيا، توتي أكلها كل حين، وتوجت الامم المتحدة كيجالي قبل سنوات بانها المدينة الأجمل والأكثر نظافة في افريقيا، وانا رايت بعيني ذلك الجمال وتلك النظافة. ثم قاموا بتطوير اقتصادهم فصارت رواندا الدولة الأعلى نموا في افريقيا. وهكذا كسبت رواندا سمعة عالمية، وتبدلت صورتها الاولى البائسة في مخيلة الناس والعالم الى صورة اخرى أبهى وأجمل، وصارت اليوم مثلا للوحدة والنهضة والنظام والجمال والآمال والحياة الكريمة، بعد ان كانت قبل عقدين فقط مثلا للبؤس والشقاء والفوضى والإبادة. فوالله، انني لم اغبط شييا كما غبطت جمال رواندا ونهضتها.
اذا اردنا ان نغير صورتنا حقا، فهذا هو النموذج، وهذا هو الطريق. وهو نموذج ليس بالمستحيل، وطريق ليس بالوعر. ولكن الإرادة تعمل المستحيل عند خلوص النية والعزم على الإقلاع عن الذنب. اما العويل والعنتريات والتشكي والتباهي مع سلوك نفس الطريق، فهذا -لعمري – است في الارض واتف في السماء وخيال في القمر وعيش في مستنقع، وذلك لا يحدي نفعا، ولن يغير من صورتنا في أنفسنا وامام العالم شييا.