سنتنان بالتمام والكمال غبت فيها عن فرحة الوجوه البريئة وبراري الوطن التي درجت عليها ورسمت فيها الأحلام، أحلام طفولة بريئة تتراءى لي كبرق أمطار الوطن وتداعب جبيني كنسيم الصباح الجميل تغدو مع الصباح وتروح مع المساء ، تبتعد عني حينا وتلعب معي لعبة التخفي والإيجاد.
سنتان بالتمام والكمال غبت فيها عن أمي فاطمة عبدالله دوحة التربية ومعهد البناء والتكوين، فكم عاتبتني بمصالحي وكم أعطتني من النصائح الجميلة التي كانت من أحسن هدايا الحياة، كم فاخرت بي وهي تتسلم معي جوائز من المدارس في صغري وفي كبري ولا غرو فقد قال محمود أبو النجاة عن الأم وقد صدق :
الأم روض كريم النبت مزدهر ** يضفي على الطفل من ريحانه النضرِ
الأم حقلٌ خصيبُ التربِ منبته ** مبارك الطلع حلو الجنى والثمر
الأم من صدرها الحاني ونظرتها ** تنمو عواطفنا العليا من الصغر
فالحب والعطف والإحسان منشؤوها ** أم أنارت سيل الخير للبشر
الأم صانعة الأجيال كم خلقت ** من البطولات في التاريخ والسير
وربة البيت إن كانت مهذبة ** فكم لها في بناء الشعب من أثر.
نِعم الأم ضرعها لنا غذاء وحنانها معهد تربوي تخرجنا منه ودعاءها نعم الدعاء هو رفيقنا في كل معمعة وفي كل دروب الحياة، كانت تقول وهي تدعوا لي هذا الدعاء الذي يسأل الله لي أن يقرب لي همي في هذه الحياة :
Hammi kasta oo wanaagsan ilaahay dayax iyo qorrax hakaaga dhigo ayagaan marna maqnaane.
فها هي سنتان بالتمام والكمال إنصرمتا ولم تكتحل عيني برؤيتها مباشرة إلا عبر هذه المكالمات المرئية وأنا حقا أشعر بحنين وشوق لا يوصف لأمي أميرة القلب وبؤبؤ العين ونور الحياة، أمي التي هي جنة دنياي ورفيقة عمري وملكة عروش حياتي كما أغيب أيضا سنتان بالتمام والكمال عن جدتي التي ربتني في الصغر واستأنست بحكاياتها وأحاديثها وعن خالاتي وأخوالي وعن أبي الذي أكن له كل الود والتحنان وعن إخوتي وأخواتي.
سنتان بالتمام والكمال غبت فيها عن واحة المدارس ورياضها معلما ومتعلما فمنذ عشرين عاما لم أغب يوما واحدا عن ساحة المدارس إلا في أيام العطل، كنت فيها الصديق الوفي لبراعم المستقبل يصابحونني ويماسونني، يشاغبونني مرة فيحزنوني ومرة يحسنون ببرههم فيفرحوني، رددت كثيرا بين جنباتها قول شاعرنا معروف الرصافي:
أأبناء المدارس إنّ نفسي**** تؤمّل فيكم الأمل الكبيرا
فسَقياً للمدارس من رياض**** لنا قد أنبتت منكم زهورا
ستكتسب البلاد بكم عُلُوّاً **** إذا وجدت لها منكم نصيرا
فإن دجت الخطوب بجانبيها **** طلعتم في دُجُنَّتها بدورا
وأصبحتم بها للعزّ حِصناً **** وكنتم حولها للمجد سورا
إذا أرتوت البلاد بفيض علم **** فعاجز أهلها يُمسى قديرا
ويَقوَى من يكون بها ضعيفاً **** ويَغنَى من يعيش بها فقيرا
وكنت أرى نفسي بحق كالرابط في ثغر تحتدم فيه ملحمة من أقوى الملاحم ويسد هجوم غدر من عدو تعرف أسماءه ولا ترى حقيقته، تشاهد آثاره ولا يلاقيك متجسدا في صورة مخلوق إنه أعدى أعداء الأمم إنه الجهل وجيوشه فلهذا كان لسان حالي كما قال شاعرنا :
Dalkaygow anaa kuugu jirah dirir colaadeede.
Darandoorri anigaa uridi hubaan dikaamayne.
Dabaashiirta aan wado ayaa kuu dabaabadehe.
سنتان بالتمام والكمال أغيب فيها عن منبر سيد الخلق وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم فكم صدحت فوقه بحقائق مرة يتلعثم اللسان حين سردها كثيرا فناوشت سهامي المتاجرين باسم الدين الذين يريقون الدماء المعصومة بنص الكتاب من الشباب وغيرهم من حركات القتل والتعذيب والعنف واستشهدت في سبيل هذه المصارحة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ( الساكت عن الحق شيطان أخرس) وذلك ردا لمن أشفقوا علي وخافوا أن تصلني سهامهم كما طفت حول الوطن أنبه الناس بخطبي التي كانت تلامس واقع وطننا وتستجيب لعلله ومشاكله فرفضت منطق القبلية ومنطق التلاعب بالنار بين حكومات الأقاليم لكن ما حدني كان أن كلامي لم يكن يتجاوز عتبة باب المسجد حيث لا وسيلة إعلامية تنقل رؤتي وما أراه مناسبا كنت محدودا بين جدران المسجد رغم أن المواضيع تتجاوز المسجد ومن فيه وترسل رسائل واضحة إلى من يهمه الأمر، وتكلمت عن العالم الإسلامي شرقيه وغربيه شالميه وجنوبه فقد ناصرت بخطبي فلسطين وناصرت الشعوب العربية الثائرة كل ذالك كان بإيماني الكامل بأن المسجد صانع الوعي الوطني والعالمي. (ربما في مقالات أخرى أتكلم فيها عن ذكرياتي فوق منبر الحبيب عليه السلام ).
سنتان بالتمام والكمال أغيب فيها عن شباب وطننا الحبيب وعن أطفاله من بنين وبنات فقد كنت صديقهم وأخاهم الكبير أشاركهم أفراحهم وأواسيهم في أتراحهم غير متملق ولا متصنع ولكن كان إيماني بهم قويا وكنت لا أمانع أن أجالس الصغير منهم قبل الكبير علني أكون له أنيسا ولهمومه علاجا أو أزرع فيه قيمة من القيم والآداب الإسلامية، ذالكم الشباب كوَنوا فيَّ شعورا آمنت بسببه أن بلادنا بخير وأنه مهما ساءت الظروف فلا بد أن يتبدل الحال وينصلح الشأن وينبني مستقبل جميل وكم رددت على مسامعهم قول الشاعر الذي قال:
شباب قنع لا خير فيهم * وبورك في الشباب الطامحينا.
أو قول أحدهم:
قد رشحوك لأمر لو فطنت به * فاربأ بنفسك أن ترعى مع العمل.
ورددت كثرا قوله تعالى : (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كلٌّ على مولاه أينما يوجه لا يأتي بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) وكانت فرحتهم فرحتي وحزنهم حزني وتقدمهم تقدمي وتقهقرهم تقهقري صاحبتهم في الروضة والكُتاب وفي المدرسة والطابور وفي الشارع والمقهى وحتى في الرياضة وملاعبها وكم من مجموعة تلعب في مكان سألتني عن المعونة المالية فقدمتها ممزوجة بمزاح الأب لابنه.
اليوم تنقضي سنتان كنت قد غبت فيهما عن الوطن ورباه وعن الأهل والأقارب وعن المساجد والمعاهد وعن شبابنا وبعد سنتين ليس هنا في باكستان شيء من هذا أو ذاك و إن كان هنا بعض شباب الوطن فلا يمكن أن يكونوا بديلا عن الوطن وبلابله ولا عن رياض العز وأعزائه.
لا حرمكم الله أهلكم ولا وطنكم وأحبابكم وشبابكم وبناتكم.