فرغتُ من قراءة كتاب (شغف الإنجاب تجربتي مع أطفال الأنابيب) للسيد حسن محمود قرني –حفظه الله- والذي سيصدر قريباً من دار النخبة للنشر والطباعة والتوزيع، وستصل أولى دفعة منه إلى أرض الوطن في الأيام القليلة القادمة بإذن المولى ، فرغتُ من قراءته للمرة الثانية على التوالى بعد إهداء المؤلف لي نسخة منه بصيغة (PDF) ولا أعرف من أين أبدأ حديثي لألخص لكم محتواه؟ أعن جمال تلك الهندسة المعمارية لكلماته الأدبية والتي أودع فيها صاحبها آخر لمساته الإبداعية في فنون بناء الكلمات وتركيب جملها؟ أم أسترسل في توصيف مشاعره وما كان يعترك في قلبه وروحه آنذاك؟ أم أضع كل ذلك جانبا وأخصص حديثي عن الأمسيات الليلة التي قضيناها معا على ضفاف البسفور ، وشوارع اسطنبول ووأزقات أنقرة، وباحات أياصوفيا مع الرفقة الطيبة أحمد شاكر عول، سليمان آدم، وعبد الولي السيد، وعبد الرزاق دلّان، وأجمد غوهاد، والشيخ عبد النور بشاش أثناء زيارته لإسطنبول.
تميز الكتاب بعنصر التشويق الذي يجعل قارئه يغوص في عالمه ويعيش الحدث بشكل مستمر، حيث أبدع الكاتب في إبراز ما كان يعتلج بداخله من تجلي فكري ووميض ذهني، فيقول الكاتب في مطلع كتابه: “الفضل في هذا الكتاب الذي أصف فيه تجربتي وما خطر لي من أفكار ومخاوف وتصورات يرجع إلى المستشفيات والفحوصات والأطباء والممرضات والمترجمات وردهات الفنادق وسائقي التكاسي ومشاعر الاغتراب التي كانت تنتابني في وسط مدن لا تشبهني….”
وهذه التجارب المتنوعة في مطارح الغربة حتما تثير في نفس الأديب ألف حكاية وتدفعه إلى نسج خيوطها تأليفا، ونحن معشر القراء نستعذبها وننتشي بسحر أخيلته، ثم نستمرئها دون أن نعلم أن استنفار الحواس على ابتكار تلك الصور البديعية واشتقاق المعاني أصعب أحيانا على الأديب من آلام المخاض.
وقد كنتُ أتساءل وأنا أقرأ الكتاب كيف صاغ المؤلف عباراته هذه بتلك الصورة المذهلة؟ هل كان لديه مفتاح سحري يفك به طلاسم الكلمات وتعقيداتها؟ أم انقادت له الكلمات طوعا وانتظمت له حروفها قدراً؟ وما هذا التناغم والتناسق العجيب فيما بينها؟ وكيف ترجم الحزن والفرح، والمتعة والألم، والسعادة والشقاوة بين سطور الورق وقطرات القلم؟
السيد حسن قرني رحالة بالدرجة الأولى باعتراف منه حيث يقول: “لا أعرف كيف ومتى بدأت علاقتي مع الترحال ولكن أحب السفر ولا أستطيع أن أتخيل حياة بدون موسيقى الحقائب وزحمة المطارات وعيون المسافرين” لكن هل ستكون رحلته هذه مختلفة عن غيرها ومغايرة لمثيلاتها تماما؛ لأنها رحلة بحث عن فلذة كبد طال انتظار قدومه لمدة خمسة أعوام مضت؟ وهل كلمة “بابا” جديدة على مسمع السيد حسن قرني حتى يتكلف هذا العناء كله من أجلها؟ ولم اعتبر تركيا وجهة سفر مفضلة لإنجاز مهمته؟ وهل استقبلته إسطنبول كما ينبغي أو أسعدته أجواء قونيا كما يجب؟ ماذا يقول عن الأتراك وتعاملهم مع الوافد إلى أرضهم؟ وكيف كانت تجربته هل نجحت أم فشلت؟ وما الأثر الذي تركته الجوامع التركية ومتاحفها الأثرية على نفسه؟
الكتاب يجيب عن تلك الأسئلة وغيرها، وأحيل القارئ الكريم إليه حتى يقف على الأجوبة بنفسه.
وعودا على بدء أنقل لكم نصين اثنين من كتابه، فالأول منهما أضحكني، والثاني أبكاني، وأذهلني:
فالأول: قوله وهو يصف صلعة الطبيب التركي الذي قابله لإجراء الفحوصات الأولية لزوجته : “كان مهيب الجانب مع مسحة من الانقباض وتظهر عليه صورة الطبيب الذي في ذهني، صلعة مشرقة وملساء…ورغم التصحر إلا إن رأس الطبيب لم يخل من بعض الشعيرات العنيدة التي صمدت أمام سطوة الصلعة واجتياحها الكاسح وكأنها واحة في وسط صحراء”
أضكحني هذا النص كثيرا وأذهلتني روعة وصف الكاتب لصلعة الدكتور؛ لأنه غالبا ما تكون صلعة الأتراك بتلك الصورة المذكورة أعلاه طبقاً.
والثاني: قوله وهو يصف حال انتظاره النتيجة النهائية لعملية اللقاح: ” …. حاولتُ أن أكون إيجابيا وأن أبعد عن نفسي شبح الحزن والاحتراق النفسي، ولكن من يحول بيني وبين الهاتف الصادح من أعماق الروح والأفكار السلبية المتدفقة؟ ….كنتُ في حالة غليان وترقب من اتصال المستشفى حتى أتعبني الانتظار……(وأخيراً) اتصلت المترجمة أسماء!!! خفق قلبي وجف ريقي واتسعت حدقة عيني؛ هل أتجاهل المكالمة ؟ هل أرد؟ نشب صراع مرير بين العقل والعاطفة وأخيراً جمعت قوتي واستقبلت المكالمة . ألو.. ألو.. نعم أستاذ حسن أنا أسماء من مستشفى نوفا فيرتيل دكتور فؤاد معك في الخط يريد مكالمتك. قلتُ: أهلا وسهلا أنتِ والدكتور المحترم. كان صوت الدكتور متهدجا منكسرا حزينا لأنه يدرك ما عانيناه وما كابدناه طيلة شهور كنا نتيه في دروب الغربة وممرات المشافي: ليس ثمة شيء يا حسن مع الأسف حصل الإجهاض !!!”
إنها لحظة عصيبة، وانقلاب كوني من نوع آخر ولا يصمد أمامه إلا الأقوياء، ولذلك تغلب السيد حسن قرني على تلك المشاعر المضطربة بالإلتجاء إلى ربه والاستسلام إليه، يقول وهو يصف حاله: ” في تلك اللحظة رجوت من الله أن أصادف حظا أفضل في طريق الحياة ، وأن ينجيني من الهوان والأمراض النفسية” ثم يقول: ” ابتلاع الفشل لم يكن سهلا ولكن الصبر كان حتما”
أعرف جيدا أن أغلى أمنية لديه كانت –وما زالت- أن يرى حبيبة قلبه حمدة تحقق حلم أمومتها في أرض الواقع، وأن تكتحل عيناه وهي تعبث بشعر طفلتها الأولى فتسرحه يمنة ويسرة، أو تغني لابنها وهو يغط في نوم عميق على حجرها، وما ذلك على الله بعزيز.
كتبه أبو أيمن أحمد الشيخ