كنا في منتصف الفصل الدراسي السادس وانضمَّت إلينا. كانت واسعة الاطلاع أكثر منا، وهذا مما جعلني إلي جنبها، تشرَّفتُ بمعرفتها رغم التحديات التي وقفت في طريقي،! كانت مشاكسة أكثر من اللازم، وكنت فوضويا وساذجا أكثر مما ينبغي!.
في ذلك الصباح استيقظتُ مبكرا وذهبتُ إلى المدرسة كما جرت به العادة، لم تكن موجودة فكرت فيها، تساءلت: لماذا تأخَّرت وكانت أول من يأتي؟!، تفقَّدت حالتها ولم أعرف سبب غيابها، جلستُ إلى الكرسي متوتّرا، فإذا بورقة على طاولتي،!! أخذتها بحماس، وإذا برسالة منها مكتوب على ظهرها: إلى روح قلبي، إلى شريان دمي.!
قالت: إن كلماتها من قلبها، وإنها تبوح لي بما لم تستطع إخبارى به سنوات عدة، وإنها متأكّدة من أن عندي نفس الشعور الذي هو عندها، إلا أنني خائف منها، تحدثت عن ليال وساعات مضت كنّا بها فرحين معا، قالت لي: أريد أن تحبني كما أحب أبي أمي، وأن تتزوَّجني كما تزوّج أحمد بحبيبته،! وأن نربي أولادنا كما ربَّيانا أبوانا.
يا حبيبي! قل لي هل أحببتني يوما؟! هل تتذكر ذاك اليوم الذي قلت لي إننا جميلان عندما ننسجم؟! هل تتذكر وهل تتذكر وتذكر عندما رأيتني يوم الخميس، وقلت لي أنت الأجمل، ما في الكون بأسره أحد مثلك.
اصطدمت برسالتها، وخفت أن يطلع عليها أبي دون علمي، كنت أحملها داخل دفتر الأدب، لأنه كان رفيقي الأقرب، لم أكن أدري ما الحب ولا كيف وُلدنا، ولا معنى العشق ولا كيف تزوج أحمد بحبيبته، هي كانت تعرف كل هذه المعلومات التى ذكرتُها مسبقا، وكنت التهف شوقا لسماع قصصها، أحيانا تروى لي غراميات علمي بوطرى الذي مات قبل قرن، وحفظت عن ظهر قلب الأغنية الصومالية:
هل كُتِبَ الحب بالدم التي تعود الي السبعينات وكانت تدندن دوما:
warqad ma isku dhiibnaa waayaha ku qorantay oo wadajirkeeni wehel ma u sameynaa wada kulenkeeni ma hoynaa wadeecada ma deynaa
هذه الأغنية تعود إلى ألبوم زينب عغي في الثمانينات، رغم صغر سنها إلا أنها تحفظ الكثير من الأغاني والقصص في ذاك القرن الغابر.
كنا دوما معا ولم أسأل تفسيرًا عن رسائلها التي لا جدوى لها، ولا هي سألتني عن رد رسائلها، لم تصبح تعساتي كما كانت فرحتي، كنت أتساءل دوما: لماذا هي معي دائما؟ لماذا لم تخلّ طريقي مثل الآخرين الذين كانو معنا أياما ومضوا إلى طريقهم!، لم أفهم آنذاك ماذا كانت تقول لي، كنت أشعر بأن أقوالها مثل قوانين الجاذبية، لذا كيف لغبيٍّ مثلي أن يفهم شخصا مثلها.
في آخر أيامي لدراستي الثانوية سمعت صديقا لي وهو يردد بيتي الشاعر القائل:
إني عشقتكِ واتخذت قراري** فلمن أقدم يا تري أعذاري
لا سلطة في الحُبّ تعلو ُسلطتي** فالرأي رأيي والخيار خــياري.
عندها فهمتُ ماذا كانت ترسل لي جميلتي الصغيرة التي لم أكن أفهم غايتها،! وعبثا حاولت البحث عنها سنينا !، الليلة أعشقها ولا أدري رأيها، لأنني لم أعد ذاك الطفل الذى أحبَّت، ولا صديقها الذى تمنَّت.
تمر علينا سنوات مديدة، هكذا كلمح البصر سريعا، ولم يدرك أحدنا حقيقة الآخر!، اقتربنا كثيرا في جوانب عديدة لاتحصى، كما افترقنا في جوانب أخرى على الرغم من أن الابتعاد لم يغير من حجم الحب والشوق الذي بيننا!، اعتدت على قراءة رسائلها الغرامية التلميحية المتواصلة، تجدني وكأنها تهمس في أعماقي شيئا لذيذا كنت أنتظره دهورا؛ لترصع أمنياتي معها بعبق الزهور، وإن افتقدت جملا كثيرة اعتدت عليها!.
لازلتُ أقول في نفسي: لمَ لم تفتتحي لك الحديث في رسائلها كي أسألها عن مقصدها الحقيقي، إلى أن جاءت ساعة الرحيل فمضت، وكانت إحدى رسالاتها الأخيرة تقول: “ماذا عساي أن يكون وداعي الأخير، وماهي كلمتك الأخيرة التي ستقول لفتاة تحبك، سعيدة أمام نظراتك ولم تعطها أجمل ماتستحقين منك يا جميل المحيا!”.
كأن لسان حالها يقول: يا حبيبي أنا أرحل إلى صالات الغربة عاشقة بك، أفتقد دائما بك، أفتكر فيك بين الحين والآخر، ومع ذلك سوف أتضرر، ﻷن حبي ليس له توأم، حبّ بلا حبيب وفيّ، فقط هذا ما سيؤلمني أكثر!.
بدَأت نبرات قلبي تقول: يا زهرة حياتي، كيف لمثلي أن يعيش دونك وكيف لعيناي أن تستيقظ وتنام دون أن تراك؟!!، جميلتي، حبك جنني لدرجة أني أفطر، أتغذّى، وأرقد؛ فقط بذكرياتي معك، أعِدُك بأن حبك لن يكون ذاك الذي انتهى بدون ثمرة يانعة وبساتين خضراء تطِلُّ على عيال العاشقين!.
يا غاليتي صَمْتِي أمامك لم يكن إلا لعدم الحصول على حروف تؤهّلني بأن أشرح لك ما تحمله نبضات قلبي إليك، يبدو بأن حالي يؤول إلى ماقاله الشاعر: فإذا وقفت أمام حسنك صامتا * فالصمت في حرم الجمال جمال ،،، كلماتنا في الحب تقتل حبنا ** إن الحروف تموت حين تقال .
لم أعرف من أين أتت لي تلك الأبيات التي أوردتها في مقالتي، كان صديق الطفولة يقول: إن الحب يجعل العاشق شاعرا دون تكلف وعناء!!، وصلت رسالتي قبل رحيلها لكن للأسف الشديد لم أكتب فيها ذاك العنوان الذي سوف نتواصل به فيما بعد، كما هي لم تكتب أيّ عنوان في رسالتها الأولى، كان هذا تقصيرا منها!.
استفسرتُ أحد أقربائها عن رحلتها، قال: إنها رحلة إلى قارة أخرى ولا يمكننا الوصول إليها مهما حاولنا، تباعدت نظراتنا ولقاءاتنا لكننا لم نزل معا نلتقي في عالم الذكريات لنستعيد دوما تلك الذكريات الجميلة التى تقاسمنا سويا هنا!.
يخطر على بالي نفس الأسئلة التي أوردت أحلام مستغنامي في كتابها: “لا أحد يعلمنا كيف نحب .. كيف لا نشقى .. كيف ننسى .. كيف نتداوى من إدمان صوت من نحب .. كيف نكسر ساعة الحب .. كيف لا نسهر .. كيف لا ننتظر .. كيف نقاوم تحرش الأشياء بنا .. كيف نحبط مؤامرة الذكريات .. وصمت الهاتف، كيف لا نهدر أشهرا وأعواما من عمرنا في مطاردة وَهَم العواطف، كيف نتعاطف مع جلادنا من دون أن نعود الى جحيمه .. كيف ننجو من جحيمه دون أن نلقي بأنفسنا في تهلكة أول حب نقابله .. كيف نخرج من بعد كل حب أحياء .. أقوياء .. وربما سعداء , هل من يخبرنا ونحن نبكي من ظلم من أحببنا أننا يوما سنضحك مما اليوم يبكينا؟”.
كل هذه الأسئلة مما لا يجيب عنها الا الزمن!.