في الأول من الشهر الجاري ذكرني حسابي في موقع الفيسبوك بتعليق كتبته في نفس اليوم من العام الماضي بمناسبة استقالة المرشح الرئاسي طاهر محمود جيلي من منصبه كوزير للإعلام في حكومة رئيس الوزراء حسن علي خيري، واتصلت به للسؤال عن إنطباعه بعد سنة من قراره هذا؟ فقال أنه يحمد الله في اتخاذه لهذا القرار في الوقت المناسب لأن الأمور بعدها تدهورت للأسوأ ولا أعرف كيف كنت سأتحمل، ومن جهة أخرى أشعر بالأسف لأنه بالأحرى للحكومة أن تستفيد من العيوب والخلل الي ذكرتها.
وإنطلاقا من مراجعة لتحركات الرجل وتصريحاته، ولقاءت جمعتني به خلال هذه السنة والتي مكنتني من دراسة الرجل عن قرب وتقييم تصوراته وأفكاره، فإن يتعاظم في نفسي يوما بعد يوم أن رغبة الرجل وطموحه في تولي منصب رئيس الجمهورية خلفا للرئيس الحالي محمد عبدالله فرماجو ليس عشقا من طرف واحد، أو هوسا في نفسيات المرشحين الاسميين، فبقدر ما يشعر الرجل بأنه مؤهل لهذا المنصب فإن هناك في الأفق معالم مواتية الظروف لذلك، وأن هناك رسائل صامته من فيلا صوماليا تحمل في طياتها استغاثة بأن البلاد في أمس الحاجة إلى رجل اطفاء في وجه الحرائق الأمنية والسياسية التي تلتهم ما تحقق للبلاد من جسور لبناء الثقة في نظام حكم هش ومبني على محاصصة عشائرية.
دروس من الماضي القريب
بعد ثلاثة سنوات من فشل عبد قاسم في إثبات وجود حكومته في العاصمة، ولم يستطع تخطي عقبة زعماء الحرب، جاء عبدالله يوسف مفعم بالحماس والغطرسة، وبعد ما فشل جدوى استيعاب زعماء الحرب في حكومته والذين أصبحوا جميعا أعضاء في المجلس الوزاري، وأطل المارد الاسلامي رأسه من بعبعه تيقن أنه لا حول له ولا قوة في مجابهة التحالف العشائري والديني باسم المحاكم الاسلامية، واستعان بخمسين ألف جندي إثيوبي إحتلوا العاصمة الصومالية لأول مرة في التاريخ، ومعظم المناطق التي نشط فيها اتحاد المحاكم الاسلامية، كل ذلك لم يؤد إلى النتيجة المطلوبة وإنما ضاعفت حجم التعقيدات الماثلة أمام أي حل سياسي في البلاد، فالعشائر القاطنة في وسط وجنوب البلاد إزدادات بعدا عن الثقة بالنظام الحكومي، ووفروا حاضنة للمقاومة المسلحة التي تستهدف اسقاط الحكومة ودفع القوات الاثيوبية إلى الخروج من البلاد، والجيش الاثيوبي وقع في ورطة لم يكن يتوقع حجمها، وبدلا من مهمة مساعدة الحكومة الصومالية أصبح توفير فرص لإنسحاب الجيش الاثيوبي من الصومال أجندة إقليمية ودولية.
جاء شريف شيخ أحمد خلفا لعبدالله يوسف، وخلال سنوات حكمه تمكن من تبديد المخاوف من بطش العشائر والمواطنين بإسم الدولة، ومد جسور التواصل مع الجميع، ورغم أن حكومته لم تحقق شيئا ملموسا في أرض الواقع وتم استنزافها من قبل حلفائه السابقين من حركة الشباب وبقايا المحاكم، لكنها استطاعت إخماد الحرائق التي أشعلها سلفه، وهي الحكومة التي مكنت من إجراء أول انتخابات رئاسية وبرلمانية في داخل البلاد، وكان شريف أول رئيس ما بعد الحرب الأهلية يقبل هزيمته في إنتخابات أجريت تحت حكمه، وفاز فيها حسن شيخ محمود.
حكومة حسن شيخ محمود كان تختلف عن فترة شريف شيخ أحمد، بحيث أن سقف توقعات المواطنين منها كان مرتفعا جدا، إذ جاءات بعد سنة من موجة جفاف ضربت مناطق كثيرة من البلاد ودفعت عشرات آلاف من الأسر للنزوح من الريف نحو العاصمة والمدن الرئيسية بعد ما فقدوا ما لديهم من مواش ومزارع نتيجة الجفاف، واحتضنت العاصمة عشرات المخيمات في الوقت الذي كانت مخيمات فترة الحرب الأهلية لم تتغيرظروفها، إلى جانب ذلك حسن شيخ ورفقائه في السلطة كانوا ينتمون إلى المجتمع المدني، لم يكونوا من بقايا الحكومة العسكرية ولا من زعماء الحرب، كما انهم تواجدوا في البلاد منذ سقوط الحكومة العسكرية وساهموا في توفير مؤسسات تعليمية أهلية ناجحة أنقذت أجيال عدة من الجهل والأمية، ولهذا كان توقع الجميع أنهم سيحدثون فرقا، لكن الصراع على السلطة وإسقاط رئيسي حكومة عبر البرلمان، ومقاومة سطوع نجم جوبالاند التي فشلوا فيها، والولادة القيصرية لتشكيل هيرشبيلي لأغراض إنتخابية بحتة، والتي جعلت الإقليم لا يزال يعاني من مضاعفاتها إلى اليوم، كل ذلك حجب جميع حسناتهم.
المنعطف الخطير
جاء محمد عبدالله فرماجو خلفا لحسن شيخ محمود مستغلا بعاملين ساهما بشكل واضح في تهيئة الأجواء له، الأول كان استياء الصوماليين من طريقة إقالته بمنصبه كرئيس للوزراءعام 2011م ككبش فداء لإنهاء الخلافات بين الشريفين، شريف شيخ أحمد ورئيس برلمانه شريف حسن شيخ آدم، وهو ما يعرف بكمبالا كورد باشراف الرئيس الأوغندي يويري موسفيني، واجتاحت العاصمة احتجاجات شعبية عنيفة فور شيوع أنباء إرغام رئيس الحكومة بالاستقالة، والسبب أنه لم يكن معروفا في اوساط الصوماليين ولم يمر على تسلمه للمنصب كثيرا، وتزامن ذلك مع وصول منحة مالية من جمهورية الجزائر لخزينة الحكومة، فدفع شهور متاخرة من رواتب الجيش وموظفي القطاع العام مما أعطاه زخما إعلاميا وصورة نمطية جعلته بطلا في أذهان كثير من الصوماليين، والعامل الآخر هو أنه ترشح في انتخابات 2017م وهو يمثل واجهة لأطراف مؤثرة في اللعبة السياسية في البلاد، بينما كان يغرد وحده في انتخابات 2012م وحصل على عدد محدود من الأصوات لم تؤهله إلى الجولة الثانية من التصويت، كما أن منافسيه الرئيسيين في عام 2017م كانا الرئيسان السابقان مما يعني أن الطريق كان معبدا له.
لكن فرماجو المنتخب رئيسا للجمهورية لم يعد فرماجو رئيس الحكومة، لأن مهام رئيس الحكومة الموظف ليس كمهام رئيس الجمهورية المنتخب، واتضح فوراأن ساعة الرئيس متوقفة في اللحظة التي غادر بها البلاد مهاجرا نحو بلاد الغرب، وكانت الصومال أنذاك تحت حكم عسكري مهاب، هذا التصور للحكم المتجمد في عقد ثمانينيات القرن الماضي عجلت اصطدام الرئيس بالواقع، وخلال ثلاثة سنوات ونصف من فترة الولاية الرئاسية التي لم يبق منها سوى شهورمعدودة اتخذت حكومة الرئيس فرماجو قرارات خاطئة لم تؤد سوى نتائج كارثية، وتأزمت بعدها الأوضاع السياسية كبوابة إلكترونية مصممة على إغلاق نفسها ذاتيا في حال العبث بها، وبعد عقدين كن الصوماليون يأملون في استعادة نظام حكم يلمل شملهم ويتفادي أخطاء الماضي، فإن هذه الحكومة قررت العمل عكس عقارب الساعة والتطلع لإقامة نظام دكتاتوري يحتكم إلى منطق القوة، يهتم لشراء الذمم ويكمم الأفواه، ولا يتقبل رأيا مخالفا، علاقة هذه الحكومة مع الأقاليم الفيدرالية مبنية على ثلاثة مستويات، أقاليم تم تعليبها ومودعة في الرفوف (جنوب غربي، هيرشبيلي وغلمدق) وأقاليم استعصت على التعليب فتم نبذها ومعاداتها(بونتلاند وجمهورية ارض الصومال) وأقاليم يتم تعبئة قوات صومالية وأجنبية للسيطرة عليها وتعليبها(جوبلاند) حكومة لا تزال تمارس مهام حكومة مركزية في الوقت الذي ينص الدستور الانتقالي أن البلاد اتخذت الفيدرالية كنظام للحكم، ولا تزال تماطل في تحديد جدول زمني معروف للإنتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة وتحاول فرض تمديد إجباري لها عن طريق مماطلة جدولة موعد الانتخابات، ولسوء الحظ فإن الرئيس الذي يخاف من المنافسة من جديد ويبحث عن ثغرات تجنبه عن الصندوق هو الشخص الذي تظاهر له المواطنون رفضا لإقصائه من رئاسة الحكومة، وهو الشخص الذي استبشر المواطنون بفوزه رئيسا لجمهورية.
جيلي رجل المرحلة
ومن أجل تفكيك هذا الواقع المتأزم وإخماد الحرائق في أكثر من جبهة فإن التغيير قادم لا محالة والمرشح طاهر جيلي هو الأنسب لهذا الدور، وكل من يعرف طاهر جيلي يدرك أن هذا المرشح يتمتع بسمعة سياسية ودوبلوماسية ممتازة، ويملك شبكة علاقات طيبة مع مختلف شرائح المجتمع الصومالي، كما منّ الله به القدرة على مخاطبة القلوب قبل الأذنين والانتقاء الأمثل للكلمات الجامعة، وتجنب كل ما من شأنه تصعيد الاحتقان وتفريق الصفوف، لا أفترض له العصمة من الخطأ فهو اي واحد من البشر، لكن لا يعني ذلك إبخاس ما لديه من صفات حميدة قد يبحثها كثيرون في عدد المرشحين الطامحين للسلطة والذين يتزايد عددهم يوما بعد يوم. المرشح جيلي رجل من طراز رجال الدولة، عند ما كان في السلك الحكومي كان منضبطا مع سياسات الحكومات التي عمل معها، وعند ما تيقن صعوبة مجاراتها قرر الترجل من قطارها، وخلال السنة التي كان في صفوف المعارضة كان يمسك العصا من الوسط لا يحابي السلطة التي استحال عليه العمل معها، ينتقد تصرفاتها في حال أخطأت، ولا يجامل رفقائه في المعارضة عند ما يفجرون في الخصومة ويسيئون إلى المؤسسات التي هي ملكا للوطن، ولن تذهب مع ذهاب من يعمل فيها حاليا وأساء استخدامها.
جيلي يتطلع لسياسة داخلية تشمل الجميع وتعزز التماسك الداخلي لتعكس سياسة خارجية مستقلة ليست رهنا لإملاءات خارجية، لا تعادي دولة ولا تحابي أخرى على حساب دولة ثالثة، يتطلع إلى فترة حكم شفافة ونزيهة ومثمرة لا تخرب حاضرها من اجل التطلع لولاية ثانية قد لا تأتي أبدا، يسعى لإصلاحات إقتصادية وسياسية من أجل نظام حكم يعبر بصدق عن إرادة المواطن الصومالي المغيب عن دوره.
نعم لرجل المرحلة …. نعم للرئيس طاهر محمود جيلي
بقلم محمد أحمد عبدالله، كتب وصحفي صومالي