لقد حظيت مسألة الردة بشيء من الإهتمام المعاصر في كثير من البلدان الإسلامية التي أغبط حين أراهم يتناولون المسألة في محفل عام، أو من خلال الإعلام رغم ما فيه من استحياء إلا أنه يخلو من الخوف الصارخ على النفس الذي يغطي المجتمع الصومالي حين يتكلمون في مسائل كهذه أمام من يغضب غضب الصبيان، ويبطش بطش الرجال من بعض المنتمين إلى السلك الدعوي والحركات الإسلامية في ظروف تلائم الفوضى، ولقد قرأت في المسألة لكثير من العلماء والباحثين وكل منهم تناول في بداية طرحه ما دفعه على إعادة النظر في المسألة من واقعه المعاصر، فلم أجد أحرى بنا في ذلك في بلد يموت فيه الناس بالعشرات في الانفجارات،أو في اغتيالات بذريعة أنهم مرتدون استحقوا الموت لردتهم، ولذلك وددت أن أفكر معكم بصوت الكتابة في ضوء اضطلاعي لهذه المسألة، مع ما كان مني من تردد حول جدوى الأمر، ولقد حدّثت نفسي بأنه آن الأوان في إعادة المسألة للواجهة وللنقاش سيما بعد انعقاد أول مؤتمر من نوعه ضم كل التوجهات والحركات الإسلامية في الصومال في غطاء حكومي، للبحث في حل جذري لمشكلة حركة الشباب المتطرفين، ومؤازرة الحكومة الصومالية في حربها مع تلك الحركة، وهو بالمناسبة خطوة تبعث الأمل والريبة معا، إلا أنني أشبه شخصا وجد نفسه بشكل أو بآخر متواجدا في القطب الشمالي دون ما يتقيه من البرد، ثم عُرض عليه أن يسافر إلى أكثر مدن العالم ارتفاعا لدرجة الحرارة، كل ما يفكر فيه في تلك اللحظة هو التخلص من البرد بكل الطرق بغض النظر عن درجة حرارة الوجهة التي هو ذاهب إليها، مع ذلك آمل أن يبدأ علماء الصومال مرحلة جديدة يتشكل فيها الفقه الصومالي حسب خصائص مجتمعه الخاص تلبية للحاجة الملحة إلى فقه مفصل على مقاس الإنسان الصومالي كما ينبغي أن يكون الفقه، وهي مرحلة تتطلب جهدا مضنيا في البحث، واستعدادا لإعادة النظر في معظم المسائل الجوهرية التي تؤثر في حياة الإنسان الصومالي، ولباقة في التعامل بين التوجهات المختلفة، وتقبلا للنقد،ورشاقة في تجاوز الآراء التي لم تعد تلائم الزمان والمكان، مع رزانة في الثبات على الأصول، والله أسأل أن يلهمنا الصواب.
قد يبدوا لغير المتأمل في تراثنا الفقهي الإسلامي أن هذه المسألة محسومة، وأصبح الجواب الوحيد لما هو حكم المرتد هو القتل، وكان الأمر كذلك حتى وقت متأخر إذ ظهر فيه كثير من الفقهاء والمفكرين الذين يعيدون النظر في المسألة من زوايا مختلفة ذاهبين إلى خلاف ما يُظن “دون التمحيص” أنه ذهب إليه جمهور الأئمة والفقهاء، وانعقد به الاجماع، وقدّم الكثير ممن أعاد النظر في المسألة مناورات فقهية تتكئ على المنهج ذاته الذي يتكئ عليه أصحاب الرأي المخالف.
إن الرأي القديم الذي ساد لدى الناس واتفق عليه جمهور الفقها المتقدمين وذهب إليه المذاهب الأربعة هو قتل المرتد بعد الاستتابة مع اختلاف في مدة الاستتابة، واستندوا إلى نصوص من القرآن الكريم ومن السنة الشريفة، وكذلك الاجماع الذي حكاه غير واحد من العلماء،والأدلة التي يستند عليها أصحاب القول الأول من القرآن هي في الحقيقة من حيث الدلالة غير دقيقة، ورغم ما هو متفق عليه بأن القرآن الكريم كله قطعي الورود، إلا أن هذا لا يجعله كله قطعي الدلالة، إذ أن دلالات النصوص تتفاوت حسب الاحتجاج والسياق، ومن أدلة القول السائد من القرآن قوله تعالى في سورة الأنفال: ” وَقَٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ”
مستدلين بأن القتال إنما هو لمجرد الاختلاف الديني، وكذلك قوله في سورة الفتح ” سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ تُقَٰتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ” استنادا إلى بعض أقوال المفسرين بأن المراد هنا هم المرتدون، وغيرها من أيات القتال وهي كثيرة لا تحصى، ورغم أن أكثرما يستدل به القائلون بقتل المترد هي من الأحاديث الشريفة إلا أن أقوى نص في هذا الباب هو حديث البخاري “من بدل دينه فافتلوه” ولقد حاول كثير من رافضي قتل المرتد أن يحسم المسألة بإنكار صحة هذا الحديث او غيرها، أو إبطال الأخذ بها في الأحكام ، كما استمات أصحاب الرأي السائد في الدفاع عن صحة الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، وأهليتها في البت في الأحكام، فالمسألة بحاجة إلى النظر في المتون أكثر من حاجتها إلى النظر في الأسانيد، ومع التسليم بصحة الحديث إلا أن دون إعمال الحديث على النحو الذي يريده أصحاب الرأي السائد خرط القتاد.
من المهم أن نفهم أن المسألة لم تكن على إطلاقها حتى عند كثير من الفقهاء المتقدمين، وأن الظروف التي عايشها المتقدمون لم تسمح للغالبية العظمى منهم بأن ينتبهوا إلى أبعاد المسألة التي لم تتقاطع مع بيئاتهم وأعرافهم بشكل صارخ، بالنسبة إليهم لقد أحسنوا التفقه إذ انطلقوا من بيئتهم والظروف المحيطة بها للوصول إلى هذا الحكم، وبحسب تلك الظروف التي لم يكن بعد قد تقاسم الناس المهمات الاجتماعية كحالنا اليوم الذي تشكلت في ظل قوانين وأعراف جديدة صادق عليها المجتمعات الإسلامية عرفا ودستورا بشكل عملي مع أن بعض أبعادها لا تزال مثار جدل إلى هذه اللحظة، إلا أن الواقع الراهن ساعدنا على أن ننتبه إلى إعادة النظر في النصوص وإلى آراء الفقهاء الأقدمين، وهي محاولة أحسب أنها أقرب إلى الصواب من أن يظل الناس متمسكين بالرأي السائد دون أي أعادة نظر فيه أو في الظروف التي تشكلت فيها هذه الآراء، وبحسب الظروف الذي ذكرتها آنفا والتي هيأئها الواقع الراهن، أصبح المتأخرون يرون فرقا كبيرا بين المرتد الذي ارتد الردة المجردة بعد رحلة فكرية شخصية خاضها، دون أن يترتب من ردته قتال المسلمين أو حتى بغضهم، وبين من ارتد ردة تصاحب عدوانا على المسلمين، مع ما طرأ على مفهوم الحرية لدى المجتمعات الإسلامية التي تعيش في القرن الحادي والعشرين لا سيما الأقليات المسلمة التي تعيش في مجتمعات ذات أغلبية مختلفة الديانة، وسأتطرق إلى هذا الجزء لاحقا بعد مناقشة البعد الفقهي للمسألة.
يجادل أصحاب الري المعاصربأن الاستدلال بالقرآن الكريم على مسألة قتل المرتد ليست واضحة لدرجة أن تفيد حكما بهذا الدقة، وإن كل ما ورد في هذا الباب من القرآن ما هو إلى أدلة عامة استأنس أصحاب الرأي السائد آيات القتال والجهاد رغم الجهود الكبيرة التي بُذل في إعادة النظر في مفهوم الجهاد نفسه، وهو ما لا أريد أن أتطرق له الآن، ويمكنني القول باطمئنان أن استنباط قتل المرتد من القرآن هو استنباط غير موفق، لكون الأيات الواردة في هذا الشأن غير واضحة الدلالة، بل أن أهم أدلة لدى أصحاب القول الثاني هو تضافر آيات القرآن على مفهوم الحرية الدينية، ولا يوجد في القرآن كله ما يمكن أن يشّرع بوضوح قاطع إراقة دم ذات عصمة في أصلها.
يقول الإمام محمد رشيد رضا في تفسيره للآية: “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله” أي: وقاتلهم حينئذ أيها الرسول أنت ومن معك من المؤمنين حتى تزول الفتنة في الدين بالتعذيب، وضروب الإيذاء لأجل تركه، كما فعلوا فيكم عندما كانت لهم القوة والسلطان في مكة، حتى أخرجوكم منها لأجل دينكم ثم صاروا يأتون لقتالكم في دار الهجرة، وحتى يكون الدين كله لله، لا يستطيع أحد أن يفتن أحدا عن دينه; ليكرهه على تركه إلى دين المكره له فيتقلده تقية ونفاقا – ونقول: إن المعنى بتعبير هذا العصر: ويكون الدين حرا، أي يكون الناس أحرارا في الدين لا يكره أحد على تركه إكراها، ولا يؤذى ويعذب لأجله تعذيبا، ويدل على العموم قوله تعالى: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” ا.هـ
إن من يبحث في هذه المسألة ليفهم كيف تشكل هذا الرأي وانتشر، سيجد أن الطرق كلها تؤدي إلى حديث ” من بدل دينه فاقتلوه” ورغم أن الذين أعادوا النظر في المسألة قدموا فهما متماسكا لهذا الحديث، إلا أن ما يقلقني في الحقيقة هو أن لا يشكل هذا الحديث أزمة لدى أصحاب الرأي السائد على هذا النحو الذي فهموه مع آيات كثيرة جعلت الحرية الدينية قاعدة كلية لا تقبل المساس بها في غير مرة، وبكل بساطة تجاهلوا هذا السيل من الآيات الكريمات على أنها منسوخة بهذا الحديث أو مخصصة به.
يقول الدكتورأحمد الريسوني في كتابه كليات الشريعة الإسلامية في المبحث الأول من الفصل الثالث الذي هو بعنوان “دعاوى النسخ والتخصيص للكليات”: “ونحن نعلم أن قاعدة {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قطعية الثبوت قطعية الدلالة , فضلا عن كليتها وعموم صيغتها , كما نعلم بالعقل والتجربة أن الإكراه على الدين لا يجدي نفعا ولا ينتج إلا ضررا.
فإذا علمنا هذا وتمسكنا به ولم نحِد عنه , كان بإمكاننا أن نتعامل بشكل سليم مع ما روي من أخبار وآثار تفيد قتل المرتد عن الإسلام , إذا لم يتب ويرجع عن ردته.
فالقول بأن القتل يكون للردة وحدها ولا شيء معها أو سواها , يتنافى تنافياواضحا مع قاعدة {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فتعين رده وعدم التسليم به. بعد ذلك، فإن هذه الأخبار والآثار الدالة على قتل المرتد، يمكن أن تفهم على أنها:
ـ إما متعلقة بعقوبة تعزيرية،تراعى في اعتمادها الملابسات والمخاطر التي كانت تشكلها حركة الردة على الكيان الإسلامي الناشئ. خاصة ونحن نعرف من خلال القرآن الكريم، ومن سياق الأحداث والوقائع يومئذ، أن كثيرا من حالات الدخول في الإسلام، ثم الخروج منه، كانت عملا تآمريامبيَّتا ينطوي على الخيانة والغدر.
ـ وإما متعلقة بما يقترن عادة مع الردة , من جرائم , أو التحاق بصف العدو , أو نحوها من الأفعال الموجبة للعقوبة. وهذا ما تشير إليه بعض روايات الحديث النبوي الصحيح (لايحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث … )، وهو أصح شيئ في الباب.” ا.هـ.
وليست هذه الآية وحدها ما ينبغي أن يشكل قلقا على من يريد تقديم هذا الحديث على أنه ناسخ لآيات القرآن أو مخصص لعمومه، فغيرها الكثير من الأيات التي تناولت مفهوم الردة دون أن تقرر عقوبة دنيوة لها، ولا أريد في الحقية أن أسهب في الحديث عن أدلة القرآن لسهولة رد استدلالات أصحاب القول السائد للقرآن، بخلاف الآيات التي تعضد أصحاب الرأي المعاصرومنها أيضا قوله تعالى في سورة يونس: “وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ “
يقول صاحب المنار في تفسير هذه الآية: “{أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} أي إن هذا ليس في استطاعتك أيها الرسول، ولا من وظائف الرسالة التي بعثت بها أنت وسائر الرسل: { إن عليك إلا البلاغ } [الشورى: 48] { وما أنت عليهم بجبار } [ق: 45] وهذه أول آية نزلت في أن الدين لا يكون بالإكراه أي لا يمكن للبشر ولا يُستطاع، ثم نزل عند التنفيذ { لا إكراه في الدين } [البقرة: 256] أي لا يجوز ولا يصح به” ا.هـ .
ويجدر بنا أن نناقش هذه المسألة بين القديم والحديث على شكل منفصل لأن كثير من الفقهاء السابقين لم يبحثوا أو لم تسنح لهم الفرصة في أن يبحثوا في مسألة قتل المرتد المسالم بالشكل الذي يتعرض له الفقهاء المعاصرون، بل إن من لمح هذا الجانب في المسألة كفقهاء الأحناف فرقوا بين قتل المرتد وبين قتل المرتدة، فالمرأة في سياق المجتمع الإسلامي في القرون الأولى هو شخص لا يحارب بشكل مباشر كالرجل، ويجوز القول بأن ما قصده الأحناف هو أن الردة المجردة ليس هو ما يوجب القتل حسب فقههم، وأعتقد أن ما اختلط على كثير من الفقهاء المتأخرين هو أنهم لم يعيدوا النظر في المسألة مع وضع الاعتبار لهذا الجانب بالتحديد، وبناء عليها فإنه يسهل أن يفهم حديث “من بدل دينه فاقتلوه” على نحو لا يجعله متناقضا مع ألقواعد الكلية التي تضافرت في تقريره نصوص كثيرة من القرآن والسنة، وأيضا من السنة العملية التي لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل مرتدا لمجرد أنه ارتد لردته، بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه فعل عكس ذلك في الحديث الذي يرويه البخاري ” أنَّ أعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى الإسْلَامِ، فأصَابَ الأعْرَابِيَّ وعْكٌ بالمَدِينَةِ، فأتَى الأعْرَابِيُّ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أقِلْنِي بَيْعَتِي، فأبَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أقِلْنِي بَيْعَتِي، فأبَى، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أقِلْنِي بَيْعَتِي، فأبَى، فَخَرَجَ الأعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّما المَدِينَةُ كَالكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا، ويَنْصَعُ طِيبُهَا.”
يجادل الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني في كتابة لا إكراه في الدين، إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم على أنه كان هناك كثير من حالات الارتداد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يعمل فيهم ما يصفونه بأنه حد، وهذه التسمية بالذات وقف الدكتور عليها طويلا وأسهب ولعل من يريد الاستزادة يرجع إلى هذا الكتاب، ما أريد الإشارة إليه هو قول الدكتور: “
إنّ من الثابت المستفيض أنّه -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يقتل مرتدًّا طيلة حياته الشريفة، قال الشافعيّ: (ما ترك رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على أحد من أهل دهره لله (تبارك وتعالى) حدًّا؛ بل كان أقوم الناس بما افترض الله عليه من حدوده، حتى قال في امرأة سرقت فشفع لها: «إنما أهلك من كان قبلكم أنّه كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ». قال الشافعيّ: «وقد آمن بعض الناس ثم ارتدّ، ثم أظهر الإيمان، فلم يقتله رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم».”
والعجيب أن كثيرا ممن يقول بمشروعية قتل المرتد يعتبره من أحكام التبليغ وأنه حد من حدود الله، ثم يجدر بنا أن نتسائل، إن كان الأمركذلك فلم علينا أن نستتيب المرتد قبل تنفيذ الحد فيه، إذ لا تسقط الحدود بالتوبة، وليس لأحد أن يتنازل عن حكم أنزله الله على عباده، أو أن يعفو عن حد من حدوده، ولا يحق ذلك لأحد من المسلمين بما فيهم الأنبياء عليهم صلوات الله، كما أنها لا تسقط بالشفاعة كما فعل سيدنا عثمان رضي الله عنه حينما شفع لأخيه في الرضاعة عبد الله بن ابي سرح رضي الله عنه في الحديث الذي رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ ، اخْتَبَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، فَجَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ . فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا ، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى . فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : ( أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ ، فَيَقْتُلُهُ ؟ فَقَالُوا : مَا نَدْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ ، أَلا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ ؟ قَالَ : إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ ) رواه أبو داود (4359) بإسناد صحيح ، وصححه ابن تيمية في ” الصارم المسلول ” (2/219) ، وابن الملقن في ” البدر المنير ” (7/450) ، وابن حجر في ” التلخيص الحبير ” (3/1136) ، والألباني في ” السلسلة الصحيحة ” (4/ 301) .
قارن هذا التعامل النبوي في شأن عبد الله بن ابي السرح الذي قد ارتد عن دينه، بتعامله مع تنفيذ الحدود وستجد فرقا كبيرا، ولذلك يحيل كثير ممن أعاد النظر في هذه المسألة الآثار والأخبار التي وردت في قتل المرتد على أنها من أحكام الإمامة إذ أنها تستند على السياسة الشرعية وليست من أحكام التبليغ التي تجري على جميع الناس في كل زمان ومكان، وهو تصور متماسك بالنسبة لمن ينظر إلى النصوص نظرة مقاصدية شاملة يتحرج من أن يواجه بعض النصوص ببعضها الآخر.
يبقى الحديث عن الحروب التي خاضها سيدنا أبو بكر رضي الله عنهما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم والذي اصطُلح عليه بحروب الردة، والإجماع المزعوم في المسألة، ولا أزال أشير إلى أهمية الانتباه إلى الشعرة التي تفصل بين مسألة قتل أو قتال المرتد الذي يترتب من ردته عداوة الإسلام والكيد له ومحاربة المسلمين، وبين المرتد الذي لا يشنُ عدوانا على الإسلام ويهدد وجود المسلمين، وإنه لعمري لحاجز يكاد لا يردى بالعين المجردة عند كثير من الناس في الظروف التي لم تبرز تفاوت أبعاد المسألة، وإن كان من يجسر على أن يحكي اجماعا على هذه المسألة فسيكون الأمر أهون حينما يتكلم عن المرتد الذي تصاحب ردته الحرابة والعدوان السافر، وللباحث الدكتور معتز الخطيب Mutaz Al-khatibبحثا بعنوان (الحرية الدينية وقتل المرتد مدخل لإعادة التفكير في الاجتهاد الفقهي) الذي نشره ضمن مجموعة أبحاث ضمها كتاب الحرية في الفكر العربي المعاصر، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يقول فيه متحدثا عن دعوى الإجماع : “أّما متأمل مذاهب التابعين، فإنه سيجد إمامين من أئمة التابعين لا يقولان بقتل المرتد،أولهماالإمام إبراهيم الَّنَخعي،وعنهَ تَفرع فقه أهل العراق،ومذهبه أن المرتدُ يستتاب أبًدا.وأدرك ابن قدامةخطورة هذا الرأي على تماسك دعوى الإجماع فقال: «وهذاُ يفضي إلى أن لاُيقتل أبًدا، وهومخالٌف للسّنة والإجماع» وثانيهما إمام بارزفي الفقه والحديث هوسفيان الثورّي، بل ُروي عن عمربن الخطاب وعمربن عبدالعزيز أيًضا، ويبدوأن هذا الرأي استمّرإلى وقت متأخر،لأننا وجدنا ابن حزم الأندلسي كّرس في المحّلى مبحث حد الرّدة للرّد على هذا الرأي، مايعني أنه كان رأًيا معتبًرا استحق كّل
تلك العناية بالرّد عليه ومناقشة حججه ودلائله.” ا.هـ
هذا ما بدا لي من الجانب الفقهي لهذه المسألة وليس هو الجانب الوحيد الذي يمكننا مناقشتها في هذا السياق، وبما أنه أهم جانب أطلت الحديث عنه وسأتناول في المقال القادم جانبا آخر من جوانب هذه المسألة، إلى ذلك الوقت دمتم بخير.