كان هائما في الفراغ، وهب عينه للمنظر الخارجي ومراقبة الطريق؛ كأنه شارد في العالم ولم يجد في العالم إلا روحه العارية!، نظرته اكتست ألوان الحزن وخيبة الأمل، وهو في شروده قاطعه صوت خفيف أتى من ورائه، لا تآخذها لا تلمها، إختفيت فجأة لم نأخذ منك خبرا مرت هي ايضا، فترة لا بأس بها من الوجع وفكرنا فكرنا انك تركتها بإرادتك! إلتفت اليها بهدوء وثقة: لا تقنعني بالأعذار الواهيه يا أختها أخذت أبسط الأسباب ملائمة لسعادتها وكأنها أرادت أن تتخلص مني بلا تأنيب ضمير ماضرها لو انتظرت أليس عذر الغائب معه؟!، لكن يا “حبها” ظلت مدة تحت إجبار الأهل لتنسي!، لا يا “أختها” لم ينبض قلبينا بالإجبار؛ لتقتله اجبارا، هذه الأمور بالإختيار الكامل.
جلس بأقرب الكراسي وهو يشبك أصابعه وتابع قائلا: خطفوني رجال لا أعرفهم، أخذوني الى بلاد لا أعرفها، لسنة كامله بقيت في قبو عذابهم، ضرب وحبس وحرمان كامل من الحرية!، كلما خفت ضممتها أكثر في لحظة التي يئس من خلاصي، بدأت أفتكر بها، حلمت بها، ضحكت معها، أخذت من عينيها القوة والزاد، رسمتها في ذهني صباح مساء، وبقيت هكذا لسنة لسنة كاملة بين العذاب وضمتها بين فنائي في قبو الموت، وتجددي في محراب مقلتها في يأسي؛ لأعيش وأملي بأن أجد رائحة جدائلها من جديد كانت كبيرة في قلبي؛ لدرجة الدواء والبلسم الى ان أتى يوم الخلاص وإنتهى عذابي بأتفه الأسباب.
كانوا يبحثون شخصا غيري، ربما تشابه عليهم الأسماء والكنية، وانتهى بي المطاف أني لم ألتقي العصى والسوط الا من سوء حظي، لكني لما رأت عيني بنور الشمس نسيت العذاب وذكرياته، وبدأت أقبل رأس هذا وصلعة ذاك!، طالبا إحضار أحذيتي للرحيل، أتو بحذاء جديد وثوب أنيق، وتذكرة طائرة، لم أخاصمهم ولم أتدمر، كان الشوق يأكلني أكثر من الوجع، ودعتهم فرحا ورحلت ورموا من وراء بعض الشكر والامتنان، لم اتجه الى بيتي وعائلتي هنا، أخذني الخف والقدم اليها الى بيتها، الى مرتع الحب والذكريات؛ لأكل أقسى ضربة في الحياة بكفها؛ لأموت ثانية، موتا يخادل، لسنة أتعرف لا يوجعك الا من تعطيه السلطة ليوجعك، مالعشق الا سهم موت تعطيه لغيرك واثقا أنه بك، لن يرمي أبدا لكن متأسفا، ليس الكل أهل للوفاء.
لا تقلق ما العالم إلا قلب انسان منفتح، وقلب الانسان ليس إلا عالم مصغر، إخترت لنفسي الجديدان تشبيها يوم وليلة، فقط مابين شروقين، كانت هي شمسي طلعت علي بعد طول ظلام، غير ان الكون ليس فيه أزلي الوجود أبدي المقام، ذهبت -هي ايضا- للفناء وآلت للغروب، وإن كنت الآن في شرود فلا أكثر أني في ليلي أنتظر الشروق من جديد، لم يبق لي إلا ساعات وعمري سيعطيني خيوط الفجر من جديد، لا تكترث للتهجم في ملامحي من قوة اشعاع نبضها، ليلي بدونها يعني بلا قمر، نعم غاب القمر، لكن الشمس وهبتني ووعدت الشروق فانتظر.
انحنى للأسفل، وأخذ قبعته وعكازه وهم بالرحيل الى الأبد؛ لتقع عينه عليها واقفة خلف الباب بعين باكية، أكدت أنها سمعت كل الحديث، قالت وصوتها مليئ ببحة الحزن: “وأنت لست أفضل مني ها أنت مسحتني مابين شروقين لم تسمع فلربما لي عذر مقنع وأسباب”.
وأخذ رجله ليتبع أخراه بخطوتين او ثلاث، اقترب اليها وقال بهمس موجع لا تقلقي يكفيني من الأعذار، أن رثائك لي دام شهر، وبعد شهر كان العرس والفرحة، وها أرى أن البشرى والولد كانت بعد شهرين او ثلاث؛ لست الا عديمة الوفاء ولست الا جسورا لأسميك ماضي، رحل وانقضى، غربت شمسك بين قرني قلبي وانتهت، بعد ساعات سأبد المشوار -وفي جعبتي أنا- والحياة نهيم ونجول ونتعلم من جديد لكن بخبرة وليس بشغف فقط، لم يتغير في شيئا، غير أن شيئا جميلا رافقني عمرا بلغ محطته ليودعني قطار الحياة لا يعرف الرجوع ولا الإنتظار، فالوداع ياشمس الماضي الوداع.
وبعد أن تتابع المشي قليلا وقف بعيدا؛ ليعطي قلبه آخر لفتة قبل الشروق، وتمتم بحزن: “سأبدأ المصير هكذا بلاك، وأنت ظن أنك انتهيت وأني تخليت نعم ياشمسي العشق، اما أن يجعلك أنت أو يحرمك أن تكون أنت فقط لن تكون لعنتي وانتحاري، وقبرك سيكون في قلبي، لن أبعدك، كن هنا قبرا كما كنت من قبل قمرا لامعا، وانا في كل شوق سأرمي فوقك وردا بلا شوك، وكل فرحة أعطيك ثغرا بلا انتظار مقابل، فالنسيان ليس أن أنسى، بل أن تنسى الحياة انك كنت في يوما !.