في عصر التكنولوجيا والإنترنت نحمل كل الأشرار في جيوبنا، فقد ولّى الزمن الذي كان الناس يعرضون لأنفسهم القيل والقال، إذا حاموا حول الشبهات، لأن الإنترنت جمع جميع تلك الشبهات والموبقات، ووضعها في جيوبنا وقلوبنا، عن طريق ما سمّوه بهواتف ذكية، وما هي من الذكاء في شيء، الّا انها تذهب بذكاء من اعتاد عليها، وتبلّد احساسه، وتغزو عقله، وتوجه رؤيته ونظرته إلى الكون والإنسان والحياة. قرأت مرة أن كلمة IPhone مركبة من (I) و(PHONE) أي أنا تليفون، فالإنسان هنا يساوي هاتفه في جيبه، فلا يستطيع أن يستغني عنه لحظة واحدة، في حله وترحاله، وفي عمله وفراغه، وفي جده وهزله، وفي كل أمر من اموره اليومية والليلية.
فإذا أنساه الشيطان أن يحمله يوما في جيبه، أو أضاعه في بعض طرقه، أو تسلطت عليه شياطين الإنس، فاستلوه من جيبه خفية، قضى يومه عبوسا كئيبا قمطريرا، وكأنه فقد فلذة كبده، أو نعي إليه أحد أبويه، أو إخوانه، أو حبيبا صديقا عزيزا عليه، فتراه حزينا مهموما كاسف البال ساكنا، أظلمت الدنيا حوله فلا يبصر شيئا، ولا يقدر على القيام بأبسط أموره، فيصير تائها في ظلمات بعضها فوق بعض، حتى إذا اهتدى في ذلك اليوم إلي بيته من دون هاتفه، عدّ ذاك فتحا مبينا وإنجازا متينا، فلا يجد نفسه، ولا يهدأ له بال، ولا يقرّ له قرار، ولا يهنأ له طعام او شراب، حتى يعوضه الله خيرا مما فقده، ويستعيد الى جيبه هاتفه، يهديه السبل اذا ضلّ، ويعينه على قضاء حوائجه، ويصله بعالمه وبالحياة حوله.
ألهذه الدرجة صارت هذه الآلة الصغيرة مهمة وضرورية في حياتنا؟ قال الفلاسفة قديما: إن الإنسان حيوان ناطق، ولكن التكنولوجيا الحديثة أعادت تعريف الإنسان، وأكدت أنه ليس إلا هاتفا ذكيا أو غبيا، وقد صدقوا، وجاهدوا في تحقيق ذلك، حتى كان لهم ما أرادوا. وكم أفسدت هذه الآلة حياتنا، وحياة أولادنا، وحياتنا الاجتماعية والعائلية، فضربت ضربتها في إفساد العلاقات بين الناس، وقطعت حبال الوصل والود بينهم، فكل مرتبط بعالمه الخاص، فلا تواصل بين الأب وابنه، ولا بين الزوج وزوجه، ولا بين الأسرة في البيت الواحد، تراهم يعيشون في سقف واحد، ولكنهم متباعدون إلكترونيًا، على مسافات واسعة من آلاف الكيلومترات، فانهم متقاربون جسدا، متباعدون روحا، فوالله، ما دخلت هذه الآلة بيتا الّا أشاعت فيه البغضاء والقطيعة.
اخترعوا تطبيقات الكترونية، زعموا أنها مواقع للتواصل الاجتماعي، والمفارقة أنه بقدر ما ينغمس الانسان في هذه المواقع، بقدر ما يزداد بعدا عن محيطه الاجتماعي والعائلي. أخوف ما أخاف على أولادي فتنة الهواتف الذكية، وما تعرضه لعقول الناشئة من البلاوى، ففي الزمن الماضي كان بإمكان الآباء ان يراقبوا سلوك أولادهم، ويتعرفوا على من يصاحبونهم، وعلى الأماكن التى يرتادونها في غدوهم ورواحهم، فيوجهون سلوكهم طبقا لذلك، وينبهونهم على ما قد يبدر منهم من سوء التدبير ، ولكن في عصر آيفون لا يحتاج الأولاد الى الخروج من البيت، ولكنهم بنقرة واحدة، وهم جالسون على جنبك، تطوى لهم الأرض طيا، وينفتح لهم الفضاء، ويتصلون بالآلاف من الأصدقاء الافتراضيين، فيهم الصالح والطالح، وفيهم المجرم والشاذ، ويسبحون في مواقع الكترونية لا تعد ولا تحصى، فيها الغث والسمين، وفيها السمّ الزعاف، يفعلون كل ذلك وهم قابعون في غرفهم، وأنت مطمئن عليهم كل الاطمئنان، فإن الغزو الالكتروني لا يعرف الحدود ولا الجدران، وانما يغشى الناس عنوة في عقر دارهم، ويستحوذ على عقولهم وقلوبهم. وليس من الحكمة في مثل هذه المصائب ان تغلق الأبواب وتسدّ النوافذ، لأنهما لا يعنيان عنك شيئا، لأن الفتنة الالكترونية تملأ الفضاء، وتنفذ من اقطار السموات والارض، فلا ينفع معها السدّ ولا الغلق، وانما تحتاج الى التعقل والتفهم، واختراع أساليب ذكية غير تقليدية، لمحاربة عدوّ لا تراه بالعين المجردة، وهو يراك ويستهدفهك في أعز ما تملكه.
انها حرب التكنولوجيا يا صديقي، فهي حرب معقدة أخطر من جميع الحروب التي عرفتها البشرية، ففي قديم الزمان كانت المعايير واضحة، والمفاهيم محددة، فكان البطل يخرج الى المبارزة مستلا سيفه، فإما قاتل وإما مقتول، أمًا اليوم ففد اختلت معالم البطولة، ولا يعرف شجاع من جبان، فان قذيفة صاروخية، يقذفه جبان من آلاف الأميال، تقتل البطل، وتقطعه إربا، وهو نائم في بيته، غير لابس لأمته، فلا جبان ولا شجاع في عصر الآلة، والانسان نفسه في هذا العصر الكنود صار آلة من الآلات، تسخره لإرادتها، وتوجهه لأغراضها، بعد ان كانت الآلة وكل ما في السموات والارض مسخرة له كما اراده الله، يستخدمها لمنافعه، ولا ندرى إن كان الانسان سيتمكن في قابل الأيام من قهر هذه الآلة، واستعادة إنسانيته، ودوره في هذه الحياة، وتحمل مسؤوليته، كخليفة الله في أرضه، محققا فيها كرامته، ومستهديا بنور الله، وخارطته في تحقيق إنسانيته وعبوديته.
عبدالواحد عبدالله شافعي.