في هذه الساعة ينهض أبو محمد من فراش مرضه، ويَقدم إلى قاعة المؤتمر الأسري مرتكزاً على عكازته الذهبية، متحاملا عليها، معتمداً على ذراع ابنته مريم، مستندا إليها، اشتد عليه الوجع في أيامه هذه ولازمته حمّى شديدة، ارتسمتْ على إثرها ملامحُ الإرهاق على جبينه، وبدت منه واضحةً آثارُ التعب والإعياء، ولقد ظهرت عليه أيضا أعراضُ مرض غريب على جسمه فانتشرت بُقَعٌ حمراءُ على رقبته وصدره!! واكتسى ظهرُه بطفحات جلدية مرعبة، وانغطّ وجهُه هو الآخر ببثرات متقيّحة، وثَم نوباتُ سعالٍ لا تتوقّف، وفقدانٌ للشهية قاتل، واسودادٌ لمحاجر العين مخيف، وجفافٌ في الحلق مؤذٍ.
ظروفه الصحية متدهورة ورغم ذلك يشارك في حل قضية محمود الشائكة، بل يؤول إليه أمرُ قبولها أو رفضها، وهو وحده القادرُ باتخاذ قرار مصيري فيها، أُجلِس على الحصير ، ثم ألقى تحيتَه المعتادةَ على أم محمود:
_ أخباركم؟ (iska warama)
_ الحمد لله بخير، وأنت ما أخبارك؟
_ الحمد لله، الحمد لله.
_ يبدو أنك متعَب أكثرَ من ذي قبل يا أبا محمود.
_ نعم، ربما كان للدواء أعراضٌ جانبية، فمنذ أن تناولته تزداد عليّ وتيرةُ الإرهاق والتعب، على العموم أنا بخير، لا تقلقي، ما الجديد في قضية محمود؟
_ والله يا أبا محمود، ولدنا أمره معقّدٌ، وقلبه معلّقٌ بالخارج _كما تعلم_ ولعلك لاحظتَ التغيّرات التي طرأت عليه سلوكياً وبدنياً، انعزل عنا تماما، وأخشى لو استمرت حاله على ما هي عليها أن يصاب بجنون _ لا قدّر الله_ وأرى أن نفعل المستحيل لإنقاذه.
_ ماذا بإمكاننا فعله إذاً؟
_ نبيع أرضنا الصغيرة تلك!!!!
_ لا لا، هذا غير ممكن يا أم محمود اعدلي عن فكرتك هذه من فضلك، ألا تعلمين أنه مرّت بنا ظروف أصعب من هذه التي نحن فيها اليوم ولم نجرؤ على بيعها؟ أنبيعها لإرضاء محمود وإشباع رغبته الطائشة؟ هذا ما لا ما يمكن أن يحدث.
_ أرجوك يا أبا محمود، حياة ابننا أغلى من الأرضية فإنْ بها يَسعدْ فلنبعْها، سيفتح الله علينا ونشتري غيرَها بإذن الله.
أطرق أبو محمود رأسه وألقى نظرة سريعة على حاله، أراد أن يتمسّك برأيه الرافض، وهمّ بقول: لا، لكنه تذكّر فوراً انتهاءَ صلاحيةِ لاءاتِه منذ أن أقعده المرض وأوقفه عن إعالة أسرته، فمن حق أم محمود إذاً أن تمرّر الأخطاء وتشرعن التهوّرات أمام عينيه، رفع رأسه بعد هذه الجولة التي طاف بها حول نفسه، ثم قال:
_ افعلي ما شئت يا أم محمود فالأمر إليكِ، (قالها بنبرة غضب) ثم حاول الانصرافَ، وإنهاءَ الجلسة.
_ اهدأ يا أبا محمود نحن مجبرون على فعل ذلك، وقل لي: كيف نشرع في اتخاذ إجراءات سفر محمود؟ هل أقترض له مبلغا من صاحابتي كي نخرج له جوازا ونطلب له التأشيرة؟
_ أجل، افعلي ذلك؛ لأن انتظار إتمام بيع الأرضية يتطلب مزيدا من الوقت، وسوق العقارات تعاني من حالة ركود _كما سمعتُ_.
في هذه الأثناء طُرق بابُ البيت بقوة، هرولت إليه سعدية وهمت بفتحه، لكن مريم سبقتها إليه، وقالت:
_ من الطارق؟
_ ليلى
_ مرحبا، أهلا وسهلا، أين أنت هذه الأيام كلها؟.
_ موجودة، بيد أني انشغلتُ بالدراسة، وكانت لدي امتحانات صعبة، كيف حال محمود!!!!!!!!!!!!!.
صحبتها سعديةُ إلى غرفتها، وفي طريقهما إليها وقعت عينُ ليلى على والدي محمود وهما يتناولان أطرافَ الحديث ويحتسيان الشاي على بلكونة البيت، أعجبتْ بالأمر جدا وألقت عليهما سلاما حارا، ثم أسرعت بخطاها نحو الغرفة.
ليلى هذه ابنةُ خال محمود، طالبةٌ جامعيةٌ في كلية اللغة العربية، تتمتّع بذكاء حاد، ولديها ذاكرة قوية تستوعب بها أشعار العرب، تحفظ آلافَ القصائد العربية عن ظهر غيب، تتقن الاستشهاد بها، تستحضرها عند الحاجة إليها، تتغنّى بها في خلواتها، تستعذب معانيها، تذوب روحها طربا عند سماعها، لديها حس مرهف، واستنطاق للمشاعر عحيب، تحب محمودا وتعتبره فارس أحلامها؛ لأنهما تربيا صعيرين على حضن عمتها أم محمود، وتعرف تفاصيل حياته كلها.
تحبه حدَّ الجنون لكنه يقابل ذلك بالإعراض التام عنها، يتهرب من مراسلاتها، ولا يعير اهتماما لمجيئها المتكرر إلى البيت، بل يردّ باب غرفته ويُحكم إغلاقه عند سماع صوتها في البيت، بالبارحة أرسلت له هذه الرسالة لكنه تجاهلها! نعم تجاهلها ! بل أدرجها في سلة المحذوفات بعد قراءتها مبستما مستغربا، قالت متمثلة بقول الشاعر:
عتبي عليكَ وكم تغيبُ وأعتبُ !
وتطيلُ بُعدكَ يا قريبُ وأعجبُ !
أنا لا أبالي بالأنامِ مللْتهمْ!
حسبي بأنّكَ مقلتايَ وأقربُ !
وجهي على جدرانِ هجركَ شاحبٌ
والقلبُ من جمرِ الجوى يتقلّبُ !
صعبٌ عليّ الليلُ دونَكَ والنوى
والعمرُ بعدكَ دونَ وجهكَ أصعبُ !
شوقي لهيبٌ لا ينامُ وصبوتي
نارٌ ودمعي عندَ بابكَ سيّبُ
فٱشهدْ أيا جرحَ الغروبِ بأنني
طيفٌ يذوبُ وخافقٌ يتعذّبُ
لا الوقتُ يرحمني ولا سيف النوى !
فمتى إليكَ من المواجع أهربُ ؟!
ديني رضاك ووجهُ صُبحكَ قِبلَتي
والليلُ في أسرارِ همسِكَ مذهبُ
ومدامعي عندَ ٱشتياقك عذبةٌ
فالمرّ يحلو -إنْ رضيتَ- ويعذبُ
كرمى لعينكَ سوفَ أنثُرُ دمعتي
والدمعُ أشهى في هواكَ وأطيبُ !
طُرق البابُ ثانية، لا شك أنه محمود، حتى طريقة طرقه للباب معروفة، سابح في أحزانه غارق في أوحالها، لا يدري ما الذي جرى أثناء غيابه؟
ليلى تنهض من مجلسها وتنطلق صوب الباب مسرعة…….. يتبع