في قراءتنا لكتاب (مذكرات قاريء) للدكتور محمد الاحمري، تحدثنا في المقالين السابقين عن القراءة في الفصل الاول، وعن الكتب في الفصل الثاني، وسنتحدث اليوم عن الفصل الثالث بعنوان ( معايشة النمرة) ويتناول فيه المؤلف الكتابة، واهميتها، وأسلوبها، وتجويدها، واجواء ما قبل الكتابة، ولحظة الكتابة، وبعد الكتابة، وغير ذلك من الموضوعات المهمة التي لها علاقة بعالم الكتابة، وهو فصل مهم لمن يطمح الى الولوج في عالم الكتابة، اذ يقدم لنا الكاتب عصارة تجربته، وتجربة غيره من الكتّاب الاخرين وأساليبهم ومعاناتهم مع الكتابة. وما نعرضه هنا ليس الا كاغتراف من بحر زاخر بالدرر والجواهر، ولا ينقع الاغتراف غلة الصادي الى ورود المنبع.
ويفتتح الكاتب هذا الفصل بقول همنحواي: “ان الكتابة قد تبدو سهلة غير انها في الواقع اشق الاعمال في العالم” وكأن الكاتب يريد ان يشعرك في بداية هذا الفصل، ان الكتابة عملية عسيرة تحتاج الى جهد كبير ومران طويل. واذا كانت الكتابة اشق الاعمال، فلماذا نكتب ونتجشم المشقة، ونكدّ الذهن، ونتعب الجسم؟ ويجيب الكاتب اجابة خبير باسرار الكتابة، عليم بخفاياها، مدرك لسحرها ويقول؛ “ان الكتابة تكشف للإنسان عن نفسه ما لا يكشفه التامل والسكون، فأنت ترى نفسك هناك على السطور بكل محاسنك ومعايبك” (مذكرات قاري، ص١٩٤). ويوضح الكاتب الفرق بين الكتابة الإبداعية وبين الجمع والترتيب: “وهناك انواع عديدة من الكتابة، فمن يكتب بحثا يجمع فيه اراء الناس من الكتب او من ذاكرته، قد يجد صعوبة في التنسيق والترتيب والوصول للنتائج، وقد لا يكون في عمله شيي من الإبداع، غير ان من ينشئ نصا أدبياً او فكريا على غير مثال سابق في فكرته او توجهه قد لا يكون صاحبه قادرا على كتابة الشيي الكثير” (مذكرات قاري، ١٩٨). وضرب الكاتب كتاب ( الام) للامام الشافعي مثالا للإبداع على غير منوال سابق، بينما اشار الى قلة الإبداع في اعمال كثير من الحفاظ الذين جاءوا بعده، واقتصروا على الجمع والترتيب.
ثم يعرض الكاتب العلاقة الوطيدة بين الكتابة والقراءة، ويؤكد انه لا بد من القراءة الكثيرة قبل الجري في مضمار الكتابة “وقبل خوض هذه المغامرة الجريية والبدء في الكتابة، فمن المهم الاستعداد للكتابة بقراءة واسعة” (مذكرات قاري، ٢٠٠).وهذا الترابط الوثيق بين القراءة والكتابة هو ما يلاحظه كل من له تجربة في هذا الميدان، ولقد عبر الكاتب عن هذه العلاقة بتعبير موجز جميل حين قال: ” فالكاتب العظيم هو قاري عظيم” ثم بين الكاتب ان جميع العباقرة الذين قرا لهم، وكان لهم نبوغ في العلوم، قد نقل عن نهمهم الشديد بالقراءة. ويرى الكاتب ان القراءة المجردة ليست وحدها كافية لتجويد الكتابة، وانما يشترط فيها الجد والتجويد حتى تؤتي أكلها “فمن لم يقرا طويلا ويجدّ في قراءته، فلن يكتب نصا متميزا، فجودة الكتابة بمقدار جودة موارد القراءة” ( مذكرات قاري، ص٢٠٤). ويحذر الكاتب من استسهال الكتابة، والتعجل فيها قبل الاستعداد والقراءة الواسعة والمران الطويل، فهناك فرق بين الكتابة الصحفية الضحلة، وبين الكتابة الجادة المتقنة والاسلوب الرصين، ويقول في ذلك: “والجدّ في الكتابة كالجد في القراءة، وياتي الخطر على الكتابة من استسهال الكاتب لها، ومن تبسيط مهمته والتعجل في الكتابة، ولهذا كانت الصحافة من خصوم الكتابة الراقية”مذكرات قاري، ٢٠٤).
ثم ينتقل الكاتب إلى التحدث عن اجواء ما قبل لحظة الكتابة. فان للكتابة آلام المخاض، وقلق وخوف الولادة “اذاكانت الكتابة هي الطريق الى الشعور بالحرية، فان اول ما يواجهه الكاتب هو الخوف من هذه الحرية، الخوف من مواجهة اللغة، لان اول منازل الكتابة اللغة، لغتك الأم أو الغربية، وهي تحتاج لملء العيبة منها، ثم الشجاعة على استخدامها” مذكرات قاري، ٢٠٩). أما لحظة الكتابة فهي لحظة الانطلاق، وهي عملية مرتبطة بما قبلها من استعداد ومران وجهد، ويرى الكاتب انه كلما كان الاستعداد أفضل كانت المعاناة ايسر، اما هولاء الذين يستسهلون الكتابة فانهم لا محالة سيعرضون انفسهم للسخرية والازدراء “وعدم تقدير الكتابة اوضح العيوب في زماننا، اذ يراها كل من عرف القراءة سهلة، فيحمل قلمه أو حاسوبه، ويقتحم الصعاب، فيسخر منه الاصحاب، ويشمت به الخصوم، ويفسد الصنعة والسوق، ويكثر من الرديء، ويوسّع عالمها” (مذكرات قاري، ٢١٥).
ويتناول الكاتب الأسلوب في الكتابة، ويذهب الى انه ينبغي ان يكون لكل كاتب شخصيته المميزة في الكتابة من غير تكلف ولا تصنع “فكل كاتب له شخصيته التي تتميز مع الوقت، وتصبح احدى معالم حضوره في لغته، واني لأعاف كل كاتب متكلف مصفف للكلام، يربط اوله باخره، ويحسن تنسيقه، ليقال: ماشاء الله، ما اجمل تأصيله ! ولكنه ميت بلا لذعة شخصية، ولا موقف منفرد” ( مذكرات قاري، ٢١٧). ويعرض الكاتب العلاقة بين الكاتب وكتابه، ويرى انها علاقة وثيقة، فالكتاب صورة صادقة من صاحبه، ولكن ليس في جمع الحالات؛ “يقولون: ان الكتاب ينبئ عن كاتبه، وهذا حق الى حد كبير، ولكن كم من كتاب ارتقى فوق كاتبه، وكاتب اخطر وابعد غورا من كتابه او نصه” (مذكرات قاري، ٢٢٧). وماذا عن العلاقة بين الكاتب والقاري؟ يعرض الكاتب لهذه العلاقة، واخشى ما يخشاه ان يكون الكاتب ثقيلا على القاري، ويورد كلاما معبرا جميلا لنجيب المانع في كتابه الماتع (ذكريات عمر أكلته الحروف) : “ويل للكاتب اذا تثاقله القاريء، فالقارئ يشبه طاغية يسامره القاريء بعد عناء يوم أمضاه الطاغية في الصيد او حكم الناس، وهو في حالة ارتياحه ليلا يطلب مسامره الكاتب ان يحدثه بالطريف والرائع، حتى يحين موعد نومه، فاذا كان الكاتب المسامر مضجراً للقاريء الطاغية، فهو لا ينال منه سوى التثاؤب” ( مذكرات قاري، ٢٧٧). ولكن ما ذنب الكاتب اذا كان القاري الطاغية ثقيلا بليدا؟
فاذا كانت الكتابة معاناة ومشقة، فلماذا نكتب اذن؟ وما هي الاسباب التي تدفع الناس الى الكتابة؟ اوضح المؤلف ان هناك اسبابا عدة تحفز الناس على الكتابة، وأورد ان نيتشة ذكر انه يكره الكتابة، ولكنه يكتب للتخلص من افكاره. وأورد جورج أوريل اسبابا اربعة للكتابة: غرور الذات، وزهوها كالفخر، والتظاهر بالذكاء، وذكر الناس له بعد الموت، وأضاف الكاتب اسبابا اخرى منها: الحماس للجمال الخارجي في الكون، والترويج السياسي، والدافع التاريخي، والرغبة في روية الأشياء وتسجيلها كما هي (مذكرات قاري،٢٥٣-٢٥٥). ثم يقف المؤلف على العلاقة بين الكاتب والمكان، فهناك من يبدع بين الناس، وبكتب في الصخب والضجيج، وهناك من يفضل العزلة والانفراد والهدوء، ويرى المؤلف ان العزلة مهمة للكاتب اثناء الكتابة، سواء كانت نلك العزلة شعورية او عزلة حقيقية. وللكتّاب عادات غريبة اثناء كتابتهم، ومن اغرب هذه العادات ما أورده المؤلف ان الكاتب اللبناني سليم سركس قال؛ “انه لا يكتب الا وفي جيبه نقود يتلمسها، وربما طلب من احدهم ان يعيره نقودا يتحسسها في جيبه، حتي ينتهي من النص، ثم يعيدها لصاحبها” (مذكرات قاري، ٢٩٥)،
وينصح المؤلف الكاتب بالتريث في الكتابة، وان يؤخر ناليف الكتب الى ما بعد الأربعين، وهي مرحلة النضج والرشد، فيكون كتابه في هذه المرحلة كتاب النضوج عقلا وفكرا وعاطفة وشعورا ولغة وأسلوبا، اما تأليفه في مرحلة الشباب فقد لا يخلو من طيش الشباب. وقد ذكر الكاتب كلاما للامام ابن الحوزي في الصيد ينصح فيه تأجيل الكتابة الى ما بعد الأربعين، ثم أورد طرفة جميلة حين قال؛ وسمعت الشيخ عبدالرحيم الطحان يذكر ان العلماء كانوا يقولون: “من كتب قبل الأربعين فلتكسر يده” وقد علق المؤلف على هذا بقوله: وقد صدق العلماء هولاء في انه فبل الأربعين لا يكتمل نضوج اغلب الرجال ووعيهم، وبلوغ الأشد ينقل الرجل الى مرحلة اخرى من العقل والفهم، فيكون اكثر تسامحا واقل تعصبا، وأقدر للرؤية من محل اعلى من مدارك الشباب” (مذكرات قاريء، ٣١٦). وهذا ما يشعره كل من بلغ الأربعين اذا نظر الى الوراء. ومع ذلك، اعتقد ان هذه ليست قاعدة عامة مطردة في جميع الأفراد، فقد ينبع بعض الناس قبل الأربعين، وقد يكتبون كتبا ناضجة، ولكن ذلك قليل ولا ينقض نصيحة التريث والنضوج، خاصة في زماننا هذا الذي سمته الاستسهال والسرعة، ومن تعجل شييا قبل أوانه عوقب بحرمانه.
يتبع …
عبدالواحد عبدالله شافعي
Post Views: 11