مقدمة:
عندما كنت أطالع أرشيفي، وجدتُّ فيه أوراقا كتبتها في عام 2009م وأنا في السودان خاصة في مكتبة لجمعية الكتاب والسنة السلفية بالخرطوم للتعقيب على كتيّب صغير للدكتور فريح بن صالح البهلال بعنوان: “تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد” – تقديم الشيخ ابن باز رحمه الله-، حاول فيها المؤلف الدفاع عن صحة جميع الأحاديث الواردة في كتاب التوحيد للإمام محمد عبد الوهاب النجدي رحمه الله.
فتتبعتُ الأحاديث التي ذكرها في كتيّبه ووجدتّ أن معظمها لا تصحّ رواية، وكنتُ في أواخر السنة الجامعية ولم يتبلوّر فكري النقدي بعد، فتركتُ هذه الأحاديث على شكل مسودّة لمدة خمسة عشر عاما، ولكن أدركت فيما بعد بأن النقد لا يقتصر على الرواية والسند فقط، بل على الدراية والمنهج وطريقة التفسير، فكل كتاب لا بدّ وأن يحتوي على ملاحظات، رغم أنه من غير الأحسن نشر كل نقد، فلا أحَدَ سالم من الأخطاء والهفوات بل والاعتراض، وما زال الناس مختلفين في الرأي والفهم.
ولكن ما حملني على كتابة هذه الأوراق هو أن هذا الكتاب (كتاب التوحيد) من أهمّ كتب العقيدة في العالم الإسلامي، ويحظى باحترام كبير جدًّا خاصة في التيار السلفي، ومن النادر جدًّا من قام بقراءة نقدية له، مع اشتماله على قضايا كبيرة وحسّاسة من قوع الشرك من قِبـَـل بعض المسلمين وبيان خطره وعدم حرمة دم من لم يقر بالتوحيد!!، ولذلك فلا بد من قراءته – أو إعادة قراءته – مع إبداء الاحترام لمؤلفه وجهوده في التوحيد، لأن انتشار استغاثة الصالحين بين المسلمين في القرون الأخيرة كان ظاهرة سلبية ناتجة عن الغلوّ فيهم، ولكن المبالغة في الدفاع عن هذا الكتاب (التوحيد) يؤدّي إلى تسليم جميع ما ورد فيه بالقبول التام، وهذا ما نرفضه، بل لا بد من الاعتدال في الرؤية، وعدم الغلوّ في الدفاع عن الكتاب، ولا في نقده وقدحه.
ولم أقتبس في دراستي هذه من الكتيّب الذي كتبته قبل 15 عاما في ذكر طرق الحديث والتوسع في سرد طرقه، وإنما أبيّن ضعف الرواية من جهة السند وسببه، مع التركيز على الجانب الفكري والمنهجي للكتاب.
الباب الأول من الكتاب:
أورد الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه حديث معاذ بن جبل المشهور في الصحيحين: “يا رسول الله، أفلا أبشّر الناس؟ قال: “لا تبشِّرهم فيتكلوا”.
يقول الشيخ:
المسألة الخامسة عشرة: أن هذه المسألة (يعني حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ) لا يعرفها أكثر الصحابة. المسألة الرابع والعشرون: عِظَم شَأن هذه المسألة.
أقول: وهذا مشكل، لأن أساس تبليغ الرسالة المحمّدية بشارة المؤمنين بالجنة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ثم قال: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا}، وقال أيضا: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوْمًا لُّدًّا}، وقال: {وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْـمُؤْمِنِينَ}، وغيرها من الآيات.
أما القول بأنها مسألة عظيمة، ولكنها خفيت على أكثر الصحابة كما قاله الشيخ فهذا أيضا غير صحيح، فالله أمر رسوله تبليغ ما أنزل إليه من ربه فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، أما تأويل الحديث بأن هذا الكتمان يحصل في زمان معين، أو بحق من يخشى منه الاتكال وترك العمل فغير مستقيم، فالنصوص القرآنية توضح أن من لم يشرك بالله شيئا يستحق الجنة، ولكنه يقيّد دائما بالعمل الصالح، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، ومن مات موحّدًا ولكنه لم يعمل صالحا فأمره إلى الله {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ}، قال الطبري: “قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة فهو في مشيئة الله إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى”.
ومع وجود هذه النصوص فالله نهى عن المؤمنين تمنّي الثواب مطلقا:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}، فالعمل الصالح مع التوحيد أساس في الحصول على الثواب، وبالتالي فالآيات القرآنية أصل في هذه المسألة، وحديث معاذ فرع، لأنه آحاد فيخضع لهذه النصوص.
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
أورد فيه حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “قال موسى يا رب علِّمْني شيئا أذكرك وأدعوك به، قال : قُل يا موسى لا إله إلا الله، قال: يا ربّ كلُّ عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهنّ غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله”، رواه ابن حبان والحاكم وصححه.
أقول: الحديث أصله من الإسرائيليات، ولا يصح سندا ومتنا، فأما في السند ففيه دراج بن سمعان أبو السمح عن أبي الهيثم، وحديثه فيه مناكير، ولهذا قال أبوداود السجستاني: “أحاديثه مستقيمة إلا ماكان عن أبي الهيثم عن أبي سعيد”.
وقد روي هذا الحديث من طريق أخرى موقوفا على كعب الأحبار، وهو الأشبه.
قال الشيخ: المسألة الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله.
أقول: لكن الخبر غير صحيح، والأصل في الأنبياء المعرفة بالتوحيد وكلمتها.
قال تعالى: {وإذْ قالَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ إنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ*إلّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ *وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ}، ويعني: عقبه بذريته، وأولاهم هم الرسل والأنبياء من ذريته من ولد إسحاق وإسماعيل، فهم أعرف بكلمة التوحيد وفضلها.
باب الخوف من الشرك
وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}.
قال الشيخ رحمه الله: المسألة الثامنة: هي المسألة العظيمة وهي سؤال الخليل له ولبنيه وِقَاية عبادة الأصنام.
المسألة التاسعة: اعتباره بحال الأكثر لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}.
أقول: ولكن لا يستدل بهذا على أنّ أكثر أمة محمد صلى الله عليه وسلم واقعون في الشرك، أو أن عبادة الأصنام أضللن أكثر هذه الأمة، فمن أقر بالشهادتين صادقا من قلبه فهو مسلم وإن وقع منه بعض المخالفات والغلوّ إلا إذا أتى بنقيض للتوحيد، وأقول هذا كي لا يُستخدم كلام الشيخ في تكفير عامة المسلمين.
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
قال الشيخ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: “من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله”.
هذا من أعظم ما يبين معنى” لا إله إلا الله”، فإنه لم يجعل التلفُّظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يَحرُمُ ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله؛ فإن شكَّ أو توقَّفَ لم يَحرُم مَاله ودمه، فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها! وياله من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع!”.
أقول: هذه القاعدة تحتاج إلى تأصيل كبير، وإلا فكثير من المسلمين الأبرياء الذين قتلوا في البلدان الإسلامية من أفغانستان إلى نيجيريا تحت ذريعة أنهم لم يكفروا بالطاغوت، أو شكّوا وتوقَّفوا فيه!! استدلّوا بكلام الشيخ وأمثاله، والأصل حرمة دم المسلم وعصمته، وعليه تدل النصوص القطعية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، نزلت هذه الآية في حادثة مشهورة فروى البخاري عن ابن عباس قال: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك هذه الآية.
وأشهر منها قول أسامة بن زيد: لحقتُ أنا ورجل من الأنصار رجلًا من المشركين، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفَّ عنه الأنصاري، فطعنتُهُ برمحي حتى قتلتُهُ، فلما قدمنا بلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أسامة، أقتلْتَه بعدما قال لا إله إلا الله؟ قلتُ يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا”؟، فمازال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.
ولذلك قال العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره “التحرير والتنوير”: وقد دلت الآية على حِكْمَة عظيمة في حفظ الجامِعَة الدينية، وهي بثُّ الثقة والأمان بين أفراد الأمة، وطَرْح ما من شأنه إدخال الشك لأنه إذا فُتِح هذا الباب عسُرَ سَدُّه، وكما يتَّهم المتهم غيره فللغير أن يتهم من اتهمه، وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق، إذ قد أصبحت التهمة تظل الصادق والمنافق، وانظر معاملة النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين معاملة المسلمين”.