باب من تبرَّك بشجر أو حجر ونحوهما
قال الشيخ عبد الرحمن حفيد الشيخ الإمام في “فتح المجيد شرح كتاب التوحيد”: قوله: “باب من تبرَّك بشجر أو حجر ونحوهما كبُقْعةٍ وقَبْرٍ ونحو ذلك، أي فهو مشرك”.
فهل التبرُّك بقبور الصالحين يعتبر من الشرك مطلقا أم أنه مقيّد؟!!.
إن إدخال مسألة التبرك بقبور الصالحين في صلب مسائل الشرك فيه نظر، بل هي مسألة مختلف عليها بين أهل العلم ما بين الكراهة والجواز والمنع، والشيخ وأتباعه اتبعوا الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية في مَنْع التبرك بقبور الصالحين، والتحقيق هو التوسط بين الجواز المطلق والمنع المطلق، فإذا كان التبرك وسيلة للعامي إلى المحظور وهو الغلوّ المؤدّي إلى عبادة غير الله فينبغي المنع وبيان وجه المسألة للعامة، وأنه لا نافع ولا ضارّ إلا الله، كما أنه لا ينبغي المنع المطلق من التبرك بآثار الصالحين ولا بالدعاء عند قبورهم، فأكثر أهل العلم سلَفًا وخلَفًا على هذا.
وروى ابن أبي شيبة في “المصنف” عن يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: رأيتُ نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا لهم المسجد (يقصد المسجد النبوي) قاموا إلى رمانة المنبر القرعاء “أي: الملساء” فمسحوها ودَعَوْا.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتابه “العلل ومعرفة الرجال”: سألتُ أبي عن الرجل يمسُّ مِنبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتبرَّكُ بمسِّه ويقبِّله ويفعل بالقَبْرِ مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرُّب إلى الله جل وعز؟ فقال: لا بأس بذلك.
ونقل الذهبي في “السِّيَر” عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: رأيت أبي يأخذ شعرة من شَعْر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه يُقبّلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عَينه، ويغمسها في الماء ويشربه يستشفي به، ورأيتُه أخَذ قصعة النبي صلى الله عليه وسلم فغسلها في جبّ الماء ثم شَرب فيها، ورأيتُه يشرب من ماء زمزم يستشفي به، ويمسح به يديه ووجهه.
ثم قال الذهبي: “أين المتنطِّعُ المنكِرُ على أحمد!، وقد ثبت أن عبد الله سأل أباه عمن يلمس منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويمس الحجرة النبوية، فقال: لا أرى بذلك بأسًا؟!! أعاذنا الله وإياكم من رَأْيِ الخوارج ومِن البِدع”.
أقول: وقد نقلتُ في كتابي (الإمام الذهبي وفكره النقدي) عن خلدون عبد العزيز أن الحافظ الذهبي في مقولته هذه يَعتبر الذين يُنكرون على من يتبرَّكُ بالآثار النبوية هو الذي وقع في البدعة، وسار على نهج الخوارج في تشدُّدهم في الدّين، ومسارعتهم لرمي الآخرين بالكفر وغير ذلك من التهم الباطلة.. كما نقلتُ عن الذهبي إنكاره شبه الصريح على شيخه الإمام الكبير ابن تيمية في تحريم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الذهبي في ترجمة أبي بكر بن لال الهمذاني الشافعي من “السير”: “والدعاءُ مستجابٌ عند قبور الأنبياء والأولياء، وفي سائر البقاع، لكن سبب الإجابة حضور الداعي، وخشوعه وابتهاله، وبلا ريب في البقعة المباركة…”.
ويرى الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم جواز التبرك بآثار الصالحين قياسا على التبرك بالمصطفى صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن الملقن الشافعي في شرحه لصحيح البخاري عن قبر الصحابي أبي أيوب الأنصاري في القسطنطينية: “فقبرُهُ مع سور القسطنطينية يُتبرَّك به ويُستشفَى”، وقال أيضا: “ولم يزل الناسُ يتبركون بمواضع الصالحين وأهلِ الفضل”.
وفي “فتح الباري” يقول الحافظ ابن حجر: “قد تقدَّم حديث عتبان وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته؛ ليتَّخِذه مُصلى، وإجابةُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فهو حجة في التبرك بآثار الصالحين”.
وفي ترجمة عبد الله المنوفي من “الدرر الكامنة” يقول ابن حجر أيضا: “وقبرُه مشهور يتبرَّك بزيارته”.
وقد استدل العلماء بآثار وأحاديث عديدة في التبرُّك بقبور الصالحين وآثارهم، ليس هنا موضع سردها، وصنّف الشيخ العارف العلامة عثمان حدك رحمه الله فيه مصنّفا باسم (إقناع المؤمنين بتبرّك الصالحين) استوفى فيه أدلة المجيزين، لكن الإمام ابن تيمية ذهب إلى عدم مشروعية التبرك بآثار وقبور الصالحين، فردّ عليه الإمام تقي الدين السبكي معاصره، فقال وهو يتناول مسألة التوسل بالنبي والتبرك بآثاره: “ولم يُنكر أحد ذلك مِن أهل الأديان ولا سمع به في زمن من الأزمان حتى جاء ابن تيمية فتكلَّم في ذلك بكلام يلبّس فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار”، أ.هـ من كتابه”شفاء السقام في زيارة خير الأنام”.
وأفاد الأزهر الشريف أن مشروعية التبرُّك بالصالحين وآثارهم في الحياة وبعد الممات هو مذهب السَّلَف والخلف قاطبة إلا من شذَّ.
وأضاف في بيانه: “نحن نؤكّد أنه ليس للمانعين من حجَّةٍ إلا زَعمهم أن التبرك طريق إلى الشرك، وأنه يعني تأليه المتبرَّك به، وكلاهما وَهْمٌ كبيرٌ يعيش فيه القوم، فليس التبرك معناه: أننا نقدِّس الجماد لذاته، وليس أننا نتبرك بالصالحين أننا نعبدهم، بل نرى أن محبة الصالحين وآثارهم قربةٌ تقربنا إلى الله تعالى”.
أما التبرك بتراب قبور الأولياء والصالحين فقد نقل الشيخ العلامة عثمان حدك المتوفى في مقديشو قريبا رحمة الله عليه في كتابه “إقناع المؤمنين بتبرك الصالحين” عن شيخه الفقيه الإمام العلامة حسين بن محمد (حسين عدي) المنع من ذلك، ثم قال الشيخ حدك: “الذي يميل إليه القلب جواز أخذ التربة من قبور الصالحين للتبرك إذا لم يكن ثمَّ مانع، فقد كان الأئمة يأخذون التراب من قبور الصالحين، وما رأيناه من مشائخنا وعلمائنا العاملين الذين أدركناهم، فقد كان أكثرهم لا يمنعون أحدا من أَخْذ التراب تبركا بالصالحين”.
أقول: وقول العلامة الفقيه حسين عدي رحمه الله وجيهٌ جدًّا، فرأيه من باب سدّ الذرائع، وحسبُك به فقيها إماما عالما لم يُر مثله في قرنه، وقد أدركنا العامة وهم يستغيثون بالأموات بما لا يقدرون عليه، فهذا غلوّ مرفوض شرعًا، ينبغي تعليمهم وتنبيههم، بقدرة الإله الواحد القهار الذي لا إله إلا هو، وسع كل شيء علما، وقد غلت بنو إسرئيل عندما أضلَّهم السامري الذي أخذ التراب من أثر جبريل فنبذها وألقى على العجل، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، فينبغي لنا أن نتَّزن ونعتدل.
أما الباب المعقود هنا وهو التبرك بشجر أو حجر وغيرهما قد استهل الشيخ الإمام به قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}.
قال الشيخ سليمان رحمه الله وهو حفيد الشيخ المؤلف في شرحه “تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد: “مناسبة الآية للترجمة أنه إن كان التبرُّك شِركًا أكبر فظاهرٌ، وإن كان شركا أصغر فالسَّلف يستدلون بالآيات التي نزلت في الأكبر على الأصغر”.
أقول: هذه المسألة تحتاج إلى ضبط، فالصحابة استدلّوا في بعض الأحيان بآيات عامة على أحداث خاصة استئناسا، ولكن لا يصح كثير منها عنهم، فمثلا استدلال ابن عباس بقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قال: تبيضُّ وجوه أهل السنة والجماعة، وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفرقة، غير صحيح من حيث الثبوت، لأن مصطلح (أهل السنة والجماعة) لم يعرفه ابن عباس وإنما أتى بعد وفاته بنحو مائة عام.
ولهذا فإن إنزال الآيات التي نزلت في الكفار على المسلمين صفة من صفات “الخوارج” الذين يرون التكفير مطلقا، وقد تنبّه لهذه الخطورة الصحابي عبد الله بن عمر، فحكى البخاري في صحيحه – “باب قتل الخوارج والملحدين” عن ابن عمر أنه كان يرى الخوارج شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آياتٍ نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين”، ذكره البخاري تعليقا.
قال الحافظ ابن حجر في “فتح الباري”: وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج أنه سأل نافعا كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال : كان يراهم شرار خلق الله، انطلقوا إلى آيات الكفار فجعلوها في المؤمنين، وإسناده صحيح” انتهى.
ولذلك يُستَحسن في هذا المقام ضبط هذا النوع من الاستدلال بأنه ينبغي ذِكْرُ مدلولِ الآية الأصليّ المطابِق وهو أنها نازلةٌ في الكفار، كما يَلزمُ أن يكون بين معنى الآية الظَّاهر وبين ما ذَكَرَه من الاستشهاد أو التفسير قياسًا -ارتباطٌ ظاهرٌ، كما يُنبَّه عليه أنه لا يجوز الاستشهادُ بالقرآن في مواطن الهَزْل، فهذا حرام لا يجوز القول به، ومِثلُهُ الاقتباسُ الذي يعمله بعض الشعراء في شعرهم، فيُدخِلون مقطعًا من آية في مواطن هَزْلية أو غير لائقة بالقرآن، أفاده الدكتور مساعد بن سليمان الطيار في مقالة له في “ملتقى أهل التفسير”.
ثم أورد الشيخ في الباب حديث أبي واقد الليثي قال: “خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط…..الحديث.
قال الشيخ: المسألة الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرُهم أولى بالجهل.
أقول: ماذا يقصد بـ”الغير” هنا؟!، يقصد بهم غير الصحابة، كما ذكره العلامة ابن عثيمين في”القول المفيد شرح كتاب التوحيد” فقال مبرِّرًا: “لأن الصحابة لا شك أنهم أعلم الناس بدين الله، فإذا كان الصحابة يجهلون أن التبرك بهذا؛ نوعٌ من اتّخاذها إلهًا، فغيرُهم من باب أولى”.
وهذا فيه نظر، بل هو قياس مع الفارق، وتعميم “جهل الصحابة” لهذه المسألة وطَلَبهم بالسدرة أيضا خَاطئ بَدَاهة، بل هو خطأ بحقّهم رضوان الله عليهم، لأن أباواقد لم يعمم بجميع الصحابة، بل تحدَّث كأناسٍ من الطُّلقاء فإنه أسلم يوم فتح مكة، ولا يصح شهوده غزوة بدر كما حققه أبو نعيم في “معرفة الصحابة”، فلو وقر الإيمان في قلوبهم لما سألوه هذا السؤال، بخلاف الصحابة الذين هاجروا في سبيل الله ونصرُوا رسولَ الله وقاتَلوا، وتلقّوا الوَحْي المنزَّل لفترة طويلة.
قال المسألة التاسعة: أن نَفْى هذا من معنى ” لا إله إلا الله ” مع دقَّته وخَفائه على أولئك.
قال ابن عثيمين: “أي: أن نَفْيَ التبرّك بالأشجار ونحوها من معنى لا إله إلا الله….”، أقول: وبالتالي: فقوله “مع دقَّته وخَفائه على أولئك” هل يقصد أولئك الطّلقاء حديثي العهد بالكفر أم جميع الصحابة؟!، يرى ابن عثيمين أنه يقصد الصحابة، وهذا خطأ بحقِّهم كما تقدم في المسألة الخامسة.
المسألة الثانية عشرة: قولهم: “ونحن حدثاء عهد بكفر”، فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك”.
قال ابن عثيمين في شرحه: “يعتذرون لجهلهم بكونهم حدثاء عهد بكفر، وأما غيرهم ممن سبق إسلامه، فلا يجهل ذلك”.
أقول: فهل من سبق إسلامه من الصحابة وقع في هذا حقًّا مع نفر أبي واقد الذين سألوا النبي جعل ذات أنواط لهم؟!! أين الإنصاف؟!! أم نتَّبع الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في كل ما قال به.!!!