باب ما جاء في الذبح لغير الله
أورد فيه حديث طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجُوزه أحدٌ حتى يقرّب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قَرِّبْ، قال ليس عندي شيء أقرب، قالوا له: قرب ولو ذُبابا، فقرَّب ذبابا، فخلُّوا سبيله فدخل النار وقالوا للآخر: قرِّبْ، فقال: ما كنتُ لأقرب لأحد شيئا دون الله فضربوا عنقه؛ فدخل الجنة” رواه أحمد.
قال الشيخ سليمان في “تيسير العزيز الحميد”: “ذكره المصنف مَعْزوًا لأحمد، وأظنه تَبع ابن القيم في عزوه لأحمد، وقد طالعتُ المسند فما رأيته فيه” أهـ.
قال الشيخ فريح البهلال في تصحيحاته لأحاديث كتاب التوحيد: “هذا المرفوع لم أقف عليه إلى الآن لا عند أحمد ولا عند غيره” أهـ.
أقول: الظاهر – والله أعلم- أن حديث طارق هكذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهْمٌ من الإمام ابن القيم في كتابه (الداء والدواء)، تبعه عليه الإمام محمد بن عبد الوهاب، والصواب عن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي موقوفا عليه، هكذا أخرجه أحمد في كتاب “الزهد” له، وابن أبي شيبة في “المصنف” وأبونعيم في “حلية الأولياء”.
قال ابن عثيمين في القول المفيد: “يحتمل أن سلمان أخذه عن بني إسرائيل، فالحديث في النفس منه شيء”، وقال الشيخ الألباني في “السلسلة الضعيفة: “يظهر لي أنه من الإسرائيليات التي كان تلقَّاها سَلْمَان عن أسياده حينما كان نصرانيا”.
وهو خبر إسرئيلي مخالف للقرآن الكريم كما سيأتي، فاعتماد الشيخ عليه في كتابه (التوحيد) جزء من ضمن الروايات الإسرائيلية الكثيرة الواردة في كتابه وسيأتي أكثرها، وسبق خبر دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي قال: “قال موسى يا رب علِّمْني شيئا أذكرك وأدعوك،،،إلخ”.
قال الشيخ: المسألة التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلُّصا من شرهم.
تعقبه الشيخ ابن عثيمين فقال: “هذه المسألة ليست مسلَّمة، فإن قوله: “قرِّبْ ولو ذبابا”؛ يقتضي أنه فعله قاصدا التقرب، أما لو فعله تخلُّصا من شرهم، فإنه لا يكفر؛ لعدم قصد التقرب” قال: ” ونحن نرى خلاف ما يرى المؤلف رحمه الله، أي أنه لو فعله بقصد التخلُّص ولم يَنْو التقرب لهذا الصنم لا يكفر، لعموم قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً}”.
ثم قال: ” الخلاصة أن مَن أُكرِه على الكفر، لم يكن كافرا ما دام قَلبه مطمئنا بالإيمان ولم يشرح بالكفر صدرا”.
أقول: بل الظاهر من القصة أن الرجل قرَّب تخلُّصًا من شرّهم كما استظهره الشيخ الإمام ابن عبد الوهاب، وبالتالي لا اعتراض عليه بتأويل متكلّف كهذا!.. والقصة تخالف القرآن.
أما اعتذار بعضهم بأن عُذر الإكراه لم يكن في الأمم السابقة بل كان فرضاً عليهم أن يصبروا ولو قُتلوا، وأن الله وضع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه دون سائر الأمم السابقة، واستدلالهم بقوله تعالى عن فتية أصحاب الكهف: {إِنَّهُم إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}، فدلَّ ذلك على أن ذلك الإكراه ليس بعُذر، فإنه يجاب عن ذلك بأن هذه الدلالة غير قطعية، بل هو استنباط محتمل، لأنه ممكن أن يقصدوا بالإعادة إلى ملة الكفر (الفتنة)، فإنهم خشَوا على أنفسهم أن يستجيبوا للباطل وأن يتَّبعُوه إذا أُكرِهوا عليه وبالتالي فلن يُفلحوا في الدَّارين.
والتحقيق أن الإكراه مُعتبر عموماً بين الأمم جميعا، وهناك أدلَّة عامة تدل على ذلك من ذلك قوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}، فكان هذا الرجل يتظاهر بالكُفْرِ في أَعماله عند آل فرعون، ويكتم إيمانه فترة طويلة حتى أظهره لما أرادوا قتل موسى، وقد وصف الله بأنه مؤمن.
أما الحديث الذي يستدلُّون به وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” فعلى فرض صحّته وثبوته فلا مفهوم له على الصحيح؛ لأنه جاء في مقام الامتنان، ولا يلزم ما ذُكِر في مقام الامتنان أن يكون غيرُه بخلاف هذا الحُكم، فموسى عليه الصلاة والسلام ليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد قال للخَضِر: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}، فقَبِل الخَضِر ذلك، وهذا بأمر الله سبحانه وتعالى.
على أن الحديث معلول من جميع طرقه، واستنكره الإمام أحمد بن حنبل جدًّا، وقال ابن أبي حاتم في كتابه العلل عن أبيه: “هذه أحاديث منكرة، كأنها موضوعة، لا يصح، ولا يثبت إسناده”، وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الاختلاف في باب طلاق المكره “إن هذا الحديث ليس له إسناد يحتج بمثله”، وحسبك أن صاحبي الصحيح وبقية أصحاب السنن – سوى ابن ماجه – أعرضوا عنه، فإفادته في هذه المسألة ليست قطعية لأنه ظني الثبوت.
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
قال ابن عثيمين في شرحه”القول المفيد”: كلام المؤلف رحمه الله ليس على إطلاقه، بل يقيد بما لا يقدر عليه المستغاث به، إما لكونه ميتا، أو غائبا، أو يكون الشيء مما لا يقدر على إزالته إلا الله تعالى، فلو استغاث بميت ليدافع عنه أو بغائب أو بحي حاضر لينزل المطر، فهذا كله من الشرك، ولو استغاث بحي حاضر فيما يقدر عليه كان جائزا، قال الله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}”.
ثم أورد الشيخ الآيات التي تناولت دعاء غير الله وعبادتهم، وهي في أصلها نزلت في عبادة الأصنام، ولكن يُستدلُّ بها كل من دعا غير الله فيما لا يقدر عليه، وهذا صحيح مسلَّم به.
ثم قال الشيخ: وروى الطبراني بإسناده “أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله.
أقول: هذا الحديث عزاه الهثيمي في كتابه “مجمع الزوائد” إلى الطبراني، وعند إطلاقه فإنه يقصد “المعجم الكبير”، وترجمة عبادة بن الصامت قد خلت من نسخة “المعجم الكبير” المطبوعة بتحقيق الشيخ حمدي عبد المجيد السَّلفي، وحتى إن محقق “مجمع الزوائد” الشيخ الدرويش لم يعزه إليه كعادته في توثيق أحاديث المجمع، فالظاهر أن في المخطوطة التي رجع إليها السَّلفي خرم وسقطت ترجمة عبادة، والله أعلم.
لكن الحافظ ابن كثير في كتابه “جامع المسانيد والسنن” نقل إسناد الطبراني فقال: قال الطبراني: حدثنا أحمد بن حماد بن زُغْبَة المصرى: حدثنا سعيد ابن عُفَيْر: حدثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن عليّ بن رباح، عن عبادة، قال: قال أبو بكر: قوموا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إِنَّهُ لا يُسْتَغَاثُ بِى، إِنَّما يُسْتَغَاثُ بالله عزَّ وجَلَّ”، قال ابن كثير: إنما رواه أحمد عن عليّ عن رجلٍ عن عبادة، كما سيأتى فى الْمُبْهَمَاتِ عنه.
ولفظ أحمد في “مسنده”: ثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، أن رجلاً، سمع عبادة بن الصامت، يقول: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبوبكر رضي الله عنه قوموا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يقام لي، إنما يقام لله تبارك وتعالى”.
وهذا حديث ضعيف، لأن ابن لهيعة – واسمه عبد الله – خلط في آخر عمره لاحتراق كتبه، ومما يؤكد على اختلاطه أن صياغة الطبراني وإسناده مختلفة عن صياغة أحمد وإسناده، فإسناد الطبراني عن عُليّ بن رباح، عن عبادة عن النبي قال: ” إِنَّهُ لا يُسْتَغَاثُ بِى، إِنَّما يُسْتَغَاثُ بالله عزَّ وجَلَّ”، وإسناد أحمد عن عُلي بن رباح، أن رجلاً، سمع عبادة بن الصامت، يقول عن النبي قال: “لا يقام لي، إنما يقام لله تبارك وتعالى”.
قال الشيخ: المسألة الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، والتأدب مع الله.
أقول: سياق الحديث يُخالف هذا الاستنباط، فأبوبكر ومن معه إنما طلبوا الاستغاثة من النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقدر عليه، إما بزجر هذا المنافق، أو تعزيره، أو بما يناسب المقام، وهذا لا محظور فيه، قال تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الذي مِن شِيعَتِه عَلى الذي مِن عَدُوِّهِ}، مع أن أصل متن الحديث مضطرب هل قال: “لا يُستغاث بي” أم قال: “لا يُقام لي”.
وأوَّل ابن عثيمين في “شرحه” أن النفي عائد إلى القضية المعيّنة التي استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم منها أي: لا يُستغاث بي في مثل هذه القضيَّة، لأنه مأمور بمعاملة المنافقين على الظاهر وعدم الانتقام منهم، وعلى هذا، فلا يُستغاث للتخلُّصِ من المنافق إلا بالله”.
وعلى العموم فالحديث غير ثابت من حيث الإسناد، والله أعلم.