باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
قال ابن العثيمين رحمه الله: “مناسبة الآية للترجمة أن هذا من البراهين الدالة على أنه لا يستحق أحد أن يكون شريكا مع الله، لأن الملائكة وهم أقرب ما يكون من الخلق لله عز وجل ما عدا خواص بني آدم يحصل منهم الفزع عند كلام الله “.
أقول: هذا نموذج من إخضاع السياق القرآني للسياق الرّوائي، وإتلاف المدلول السياقي والنظم القرآني، وهو باب واسع ينبغي التَّطرق له لبحث مستقلّ، فالآية هذه لا تخصّ الملائكة وكونها سمعت كلام الله إلخ، وإنما في سياقها تردّ على كفار قريش الذين ادّعوا أن ما يدعون من دون الله سيشفعون لهم عند الله، وتثبت أن الشفاعة لا تنفع إلا من أذِنَ له الرحمنُ ورَضِي له قولًا، وهم ممن اصطفاهم الله من الأنبياء والصلحاء – والملائكة منهم طبعا- وغيرهم، أما زوال الفزع عن قلوبهم فليس في تلقّي الملائكة للوحي، بل الأصح أن الضمير (قلوبهم) يعود إلى الذين قُبِلت الشفاعة فيهم، أو قُلوب الشفعاء والمشفوع لهم جميعا، والفزع هو الفزع الأكبر يوم القيامة حيث يقف الناس في قَلَقٍ ولهفَةٍ منتظرين قبول الشفاعة فيهم.
قال العلامة الآلوسي رحمه لله في تفسيره في ردّه على حمل معنى الآية بالرواية: “هذا ناشئ من حرمان سلامة الذوق وتدقيق النظر، والتفسيرُ الذي ذكرناه أولى بمراحل في الحُسْنِ عما ذُكر عن أكثر المفسرين، وكأن الأكثر من المفسرين نظروا إلى ظاهر طباق اللفظ مع الحديث فنزَّلُوا الآية على ذلك فوقَعوا فيما وقعُوا فيه وإن كَثُرُوا وجَلَّوا، والقائل بما سبق نظر إلى طباق المقام وحقق عدم المنافاة وظهر له حال ما قالوه فعدل عنه”.
وقال أبوحيان بعد أن سرد أن المراد بصعقة الملائكة عند الوحي: “هذه الأقوال والتي قبلها لا تكاد تلائم ألفاظ القرآن، فالله أسأل أن يرزقنا فَهْمَ كِتابه”!!.
ولذلك ردّ الإمام ابن عاشور في “تنويريه” حمل معنى الآية بالرواية الواردة، وتجاهلها البيضاوي والنسفي في تفسيريهما الملخّص المفيد، وهؤلاء المفسرون يردُّون على مثل قول الشيخ ابن عثيمين في شرحه على كتاب “التوحيد” في هذا الباب: “هذا الحديث مطابق للآية تماما، وعلى هذا يجب أن يكون هذا تفسير الآية، ولا يُقْبل لأيّ قائل أن يفسّرها بغيره، لأن تفسير القرآن إذا كان بالقرآن أو السنة فإنه نص لا يمكن لأحد أن يتجاوزه”!.
ثم أورد الشيخ حديثي أبي هريرة والنواس بن سمعان في سماع الملائكة كلام الله كأنه سلسة على صفوان وصَعْقِهم، فلفظ حديث أبي هريرة: “إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، فيسمعها مسترق السمع – ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته….” الحديث.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في تفسير هذه الآية من سورة سبأ عن شيخه الحميدي، وفي كتاب التوحيد عن ابن المديني كلاهما عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أيضا معه أبوداود والترمذي وابن ماجه، وقد روى عن ابن عيينة جمع كبير بألفاظ منها مارواه للطبري في تفسيره عن شيخه أحمد الضبي عن سفيان به بلفظ: “ولقَولِه صَوتٌ كصَوت السلسلة على الصفا الصفوان”.
أما حديث النواس بن سمعان الذي لم يعزه المؤلف لأحد فأخرجه ابن خزيمة في كتاب “التوحيد” له، والطبري في “تفسيره” والبيهقي في “الأسماء والصفات” وغيرهم عن نُعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عبد الله بن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلَّم بالوحي، فإذا تكلم أخذت السماواتِ منه رجفةٌ شديدة خوفا من الله..”.
ونعيم بن حماد معروف بالضعف الشديد ورواية أخبار منكرة فيها تَشْبيهٌ تنكيلًا منه بالجهمية، وقد بيّنتُ أخطاءه المنهجية في كتابي “منهج نقد المرويات النبوية عند الصحابة”، الذي اكتمل قريبا وأنشره ألكترونيا، وقد ذكر الحافظ أبو زرعة الدمشقي في “تاريخه” أنه عرض حديث النواس على شيخه الإمام الحافظ عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي الملقب بدُحيم فقال: لا أصل له.
وكذا روي هذا الحديث من طريق ابن مسعود وابن عباس، والصحيح أنه موقوف على ابن مسعود كما حققه الدارقطني في كتابه “العلل”.
وهذه الأحاديث استدلّت الأثريَّة بها على أن كلام الله بحرف وصَوت يُسمع، ولكن الأشاعرة والماتريدية والمؤوِّلة أوّلوا حديث أبي هريرة في “البخاري” بأن الصوت للسماء أو من حَامل الوحي وهو جبريل، وضعَّفوا الألفاظ المصرّحة لنسبة الصوت إلى الله سبحانه في الروايات الأخرى، وتحاشوا التطرق إلى رواية الصحيحين.
وأوّل من ضعفها الإمام البيهقي، وهو من قدامى الأشاعرة المحدِّثين، فقال في كتابه “الأسماء والصفات”: “لم يثبت صفة الصوت في كلام الله عز وجل حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم”، ونقل عنه ابن حجر: قوله:”يحتمل أن يكون الصَّوت المذكور للسماء أو للملك الآتي بالوحي أو لأجنحة الملائكة، وإذا احتمل ذلك لم يكن نصًّا في المسألة” إهـ، لكن نازعه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري بأنه ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة فوجب الإيمان به أوَّلا ثم إما التفويض وإمّا التأويل”، كذا في “فتح الباري” عند كتاب التوحيد من “صحيح البخاري”، وهو ردّ على من أفاد بأن ابن حجر خالف الأشاعرة في عدم التأويل والتفويض وأثبت الحرف والصوت.
وقد وقفت على إحدى البحوث الحديثية التي أعدها الأستاذ الدكتور صلاح الدين أحمد الإدلبي، أستاذ علم الحديث في عدد من الجامعات العربية، وهذا الشيخ من علماء سوريا الأشاعرة باحثة متقن، له دراية واسعة بعلم الرواية والدراية، وله بحوث عديدة في الأحاديث ونقدها، منها بحثه القيم: “حديث إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا” رواية ودراية.
أيّد فيه رأي الإمام البيهقي وذهب إلى أن الأحاديث المصرّحة بالصوت هي مما تسرَّب إلى بعض الرواة من مُسلمة أهل الكتاب، مستشهدا بما روى عبد الرزاق في “التفسير” والبسوي في “المعرفة والتاريخ” والدارمي في “الرد على الجهمية” وعبد الله بن أحمد في “السنة” والطبري وابن أبي حاتم كلاهما في “التفسير” والنجاد في “الرد على من يقول القرآن مخلوق” والطبراني في الأوسط والبيهقي في الأسماء والصفات، من طرق عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه قال: أخبرني جَزء بن جابر الخثعمي أنه سمع كعب الأحبار يقول: “لما كلم الله موسى كلمه بالألسنة كلها قبل لسانه، وطفق موسى يقول: والله يا رب ما أفقه هذا، حتى كلمه آخر ذلك بلسانه مثل صوته، فقال: يا رب هذا كلامك؟. فقال الله: لو كلمتك بكلامي لم تك شيئا، أو قال: لم تستقم له، قال: يا رب هل مِن خَلْقِك شَيء يُشْبِهُ كَلامُك؟، قال: لا، وأقرب خَلْقِي شبها كلامي أشدّ ما يَسمع الناس مِن الصَّواعق”.
أقول: ولكن معظم هذه الروايات فيما يتعلق بسماع الملائكة لكلام الله عند الوحي وقولهم: (ماذا قال ربكم) متطابقة لا تنفكُّ عن بعضها البعض، فالمرويّ عن الضحاك عن ابن عباس: “تكلَّم ربنا بالوحي كان صوته كصوت الحديد على الصفا”، ورواية العوفي عنه: “سَمِعت الملائكة صَوت الجبار يتكلم بالوحي”، منسجمة مع رواية ابن مسعود: “إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء له صلصلة كصلصلة الحديد على الصفا”، وفي رواية: “إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع صوتَه أهلُ السماء”، وهي منسجمة مع رواية أبي هريرة مرفوعا عند الطبري:”إن الله إذا قضى أمرا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها جميعا، ولقوله صَوتٌ كصوت السلسلة على الصفا” وهي رواية أحمد الضبي عن ابن عيينة، وهي نفس السند الذي أورده البخاري لكن بلفظ أصرح منه.
فقد تكلَّف العلامة الإدلبي في “بحثه” تضعيف كل رواية وردت فيها نسبة الصوت إلى الله، وأنها تسرَّبت من الإسرائيليات، مع أن الواقع بأن هذه الروايات كلها سواء رُفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم لم تُرفع أتت من مصدر واحد، وهو مُسلمة أهل الكتاب، فقد نقل أبو حيان في “تفسيره” عن كعب الأحبار قال: إذا تكلَّم الله عز وجل بلا كيف ضربت الملائكة بأجنحتها وخرَّت فزعا، قالوا فيما بينهم: {مَاذا قَال ربُّكُم قالوا الحَقَّ}، هكذا نقلها عنه بلا إسناد، ولكن أسنده يحيى بن سلام في “تفسيره” عن كعب نحوه في أن الملائكة تفزع من الوحي مخافة قيام الساعة حتى يقول جبريل لهم: الحقُّ مِن عند الحق، فيهبط به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبوهريرة معروف الرواية عن كعب الأحبار وعبد الله بن سلام، فقد روى مسلم في كتابه “التمييز” عن بسر بن سعيد وهو تابعي قال: اتَّقوا الله وتحفَّظُوا من الحديث، فوالله لقد رأيتُنا نُجالس أبا هريرة فيحدِّثُ عن رسول الله ﷺ ويحدّثنا عَن كعب الأحبار، (أي: في المجلس الواحد)، ثم يقوم، فأسمعُ بعضَ من كان معنا يجعل حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كَعبٍ، وحديثَ كَعبٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!!.
وفي رواية لابن عساكر في تاريخ دمشق” عن بسر قال: كان يقوم فينا أبو هريرة فيقول: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول كذا كذا، سمعتُ كعبًا يقول كذا كذا، فعَمِد النَّاسُ إلى بعض ما رَوى عَن كعبٍ فجعلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روت هذه الرواية من التابعين مسروق بن الأجدع، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وقتادة وغيرهم حيث فسروا هذه الآية بهذه الرواية، وكأنهم سمعوا من ابن مسعود وابن عباس، والصحابة المشهورون في رواية الإسرائيليات في بدء الخلق وأحوال الملائكة، وأهوال القيامة والجنة والنار والأمم السابقة هم عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عباس، وابن مسعود، وقد سبق ذكر أبي هريرة.
وهذه النتيجة التي توصّلتُ إليها تحتاج إلى شجاعة في ذكرها رغم جهوزيَّة التُّهَم الموجَّة إليك!، بدَلا من اللجوء إلى التأويل والتفرقة بين ذكر الصوت وعدمه في بعض طرقها!!، والله أعلم وهو الموفق.
باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
أورد الشيخ قصة وفاة أبي طالب بن عبد المطلب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، وساق فيه حديث المسيّب بن حزن المعروف، وأجاب العلامة ابن العثيمين عن الإشكالات الواردة في الحديث، كما أن العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره لمح إلى ضعف حَمْل آية التَّوبة:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}، بالرواية في وفاة أبي طالب، ونقل عن ابن العربي المالكي تضعيفه لهذه الآثار، مؤكِّدًا نزول الآية في الاستدراك على التخيير في الاستغفار للمنافقين حيث أصبح ذلك ذريعة إلى اعتقاد مساواة المشركين للمؤمنين في المغفرة، فنهى عن ذلك، وعلى أية حال فهذا باب متشعّب ينبغي بحثه لمن أراد ذلك.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: المسألتان الثالثة والرابعة: وهي المسألة الكبرى: تفسير قوله:”قل لا إله إلا الله” بخلاف ما عليه من يدَّعِي العلم، وأن أبا جهل ومن معه يعرفون مُراد النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال للرجل (قل لا إله إلا الله،) فقبَّحَ الله مَن أبو جهل أعْلَم منه بأَصل الإسلام”.
قال ابن عثيمين: الظاهر من كلامه رحمه الله أنه أراد أهل الكلام الذين يفسِّرون “لا إله إلا الله” بتوحيد الربوبية، وكذلك الذين يعبدون الرسول والأولياء ويقولون: نحن نقول “لا إله إلا الله”، وهم أجهل من أبي جهل، واحترز المؤلف في عدم ذكر من مع أبي جهل لأنهم أسلموا، وبذلك صاروا أعلم ممن بعدهم، خاصة مَن هم في العصور المتأخرة في زمن المؤلف رحمه الله”.
أقول: بل صرح الشيخ سليمان وهو حفيد المؤلف في “تيسير العزيز الحميد”: أن المؤلف أراد الردَّ على عبَّاد القبور الذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين أنهم ينفعون ويضرون، فيسألونهم مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب، وهداية القلوب، وغير ذلك من أنواع المطالب الدنيوية والأخروية، ويعتقدون أن لهم التصرف بعد الموت على سبيل الكرامة”.
وهل الصوفية وأتباهم عندهم قصور في معرفة التوحيد، وهل أبو جهل أَعرف منهم بكلمة (لا إله إلا الله)؟!.
هذا جزء من غلوّ الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في الردّ على عوام المسلمين وقَدْح توحيدهم وإسلامهم، وقد اتَّخذت جماعات تكفيرية في العصر الحديث عبارات الشيخ مُبرّرا في منهجها بتكفير عوام المسلمين، فينبغي تحرير الأخطاء المنهجية تجاه أخطاء عوام المسلمين.
وقد ردّ على الشيخ محمد أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب الذي كان عالما فقيها وقاضيا كما ذكره ابن بشر في كتابه “تاريخ نجد”، وقد انتقد طريقة أخيه محمد في تكفير عوام المسلمين وسوادّهم الأعظم من أتباع المذاهب الأربعة، وألّف في الردّ على أخيه كما سيأتي.
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله
يريد المؤلف أن يمهّد للباب القادم الذي سيؤصّل فيه أن عبادة القبور تصير بمثابة أصنام وأوثان تُعبد من دون الله.
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان
قال الشيخ سليمان بن عبد الله حفيد المؤلف في “تيسير العزيز الحميد”: بيَّنَ [المؤلف] في هذا الباب من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تنوُّع الشرك في هذه الأمة ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان، وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحقِّ لا يضرُّهم مَن خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى”.
أقول: هذا يؤكد نظريَّة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تكفير عوام المسلمين في البلاد الإسلامية، وقد ردّ عليه أخوه وشقيقه كما سيأتي، وجرت بينهما ردود قوية فهو أعلم بحاله من غيره.
وقال ابن عثيمين في “القول المفيد”: “سبب مجيء المؤلف بهذا الباب لدحض حجة من يقول: إن الشرك لا يمكن أن يقَع في هذه الأمة، وأنكروا أن تكون عِبادة القبور والأولياء من الشرك لأن هذه الأمة معصومة منه”.
ثم أورد الشيخ قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}، وأتبعها حديث: “لتتبعنَّ سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه”، كي يثبت أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستتّبع أهل الكتاب في عبادة الطاغوت.
وقد أصَّل ابن عثيمين في شرح الحديث أنه عام مخصوص، لأن في هذه الأمة مَن لا يتَّبع تلك السنن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق، وقد يقال: إن الحديث على عمومه وأنه لا يلزم أن تتَّبع هذه الأمة الأمم السابقة في جميع سُننها، بل بعض الأمة يتَّبعها في شيء وبعض الأمة يتبعها في شيء آخر، وحينئذ لا يقتضي خروج هذه الأمة من الإسلام، وهذا أولى لبقاء الحديث على عمومه، ومن المعلوم أن من طرق من كان قبلنا ما لا يخرج من الملة، مثل: أكل الربا، والحسد، والبغي، والكذب، ومنه ما يخرج من الملة: كعبادة الأوثان”.
ثم أورد الشيخ حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تقوم الساعة حتى يَلحَق حيٌّ من أمتي بالمشركين، وحتى تَعبد فئام من أمتي الأوثان”.
فقال الشيخ: المسألة السابعة: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة!!.
تعقبه أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في كتاب له يسمَّى “الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية”، لكن التحقيق أن هذا الاسم ليس له، لكون (الوهابية) لم تشتهر كمصطلح في حياته، بل بعض النسَّاخ أضاف إليه، والصحيح أن اسم الكتاب هو “فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبدالوهاب”، كما وثقه الشيخ البسام في كتابه “علماء نجد”، ويترجّح لدى بعض الباحثين(1) أن الشيخ سليمان لم يسمّ كتابه، لا سيما وهو في الأصل رسالة موجهة لحسن بن عيدان، وإن المتتبّع للمؤلفين النجديِّين في تلك الفترة يجد أنهم نادراً ما كانوا يسمون كتبهم ورسائلهم، وغالباً ما تكون تسمية الكتب من قبل النسَّاخ، أو التلاميذ.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في كتابه المذكور : “هذه الأمور التي تكفِّرون بها مَلأَتْ بلاد المسلمين مِن أكثر من سبعمائة عام كما تقدَّم نَقْله، ولو كانت هذه عبادةَ الأصنام الكبرى، وأنها الوسائط كما زعمتم لكان أهلها كفارًا أو مَن لم يكفِّرهم فهو كافر كما قلتم أنتم الآن، ومعلوم أن العلماء والأمراء لم يكفّروهم ولم يجرُوا عليهم أحكام أهل الرِّدة مع أن هذه الأمور تُفْعَل في غالب بلاد الإسلام ظاهرةً غير خفيَّة بل كما قال الشيخ صارت مأكل لكثير من الناس، وأيضا يسافرون إليها من جميع الأمصار أعظم مما يسافرون إلى الحج، ومع هذا كله فأخْبرُونا برجُلٍ واحد من أهل العلم أو أهل السَّيف قال مقالتكم هذه؟! بل أجرَوا عليهم أحكام أهل الإسلام”.
وعلى أية حال، فإنه من باب الإنصاف لا شك أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانت دعوة إصلاحية تجديدية بشأن الوضع العام في العالم الإسلامي، خاصة شيوع الغلو في القبور والصالحين، ولكن طريقة التصحيح ومواجهة الخصوم كان فيها بعض الأخطاء.
هوامش:
(1) سعود بن صالح السرحان، في بحثه المنشور ألكترونيا (حقيقة الخلاف بين محمد بن عبد الوهاب وأخيه سليمان).