كلّما تطير بي الطائرة في جوّ السماء، أشعر بفراغ هائل شبيه بفراغ الفضاء، فأهرع إلى خزانة الكتب في هاتفي المحمول، لعلَي أجد فيها أنيسا يؤنسني في وحشة هذه الرحلة الطويلة الشاقة. وبينا أنا اتصفح الكتب، وقعت عيني على كتاب (هروبي إلى الحرية) للشيخ الرئيس علي عزت رحمة الله تغشاه، فقلت في نفسي: هذه ضالتك، فما أحوجك إلى الهروب الى الحرية من هذا الضيق الخانق الذي يحيط بك من كل جوانبك، ولا أدري ما الذي يجذبني إلى على عزت، كلّما أصعد الى الفضاء، ولعلّ روحي في الفضاء وروحه في الملكوت الأعلى تعارفا فتآلفا، فاصطحبا اصطحاب العارفين، يصغي كل منهما إلى حديث الآخر، يأنس به ويطمئن إليه. وكان مما علق في ذهني من هذه المحادثة الشائقة مع الشيخ الرئيس، وسجلته في دفتري، قوله: “يعاني الإنسان في السجن من نقص في المكان, وفائض من الزمان.
فلما سمعت قوله هذا، سرحت بي نفسي، وأخذت أفكر في المقارنة بين سجن الشيخ الرئيس، وسجني هنا في هذه الطائرة التي تعوم بي عباب الفضاء، أعاني ما عاناه علي عزت في سجنه من ضيق في المكان ووفرة في الزمان، قابعا في مقعد يشبه الزنزانة في ضيقه وقيوده وملله وضجره، ولكنني هربت من هذا الضيق في المكان والوفرة في الزمان إلى رحب القراءة وسعتها، كما فعل الرئيس على عزت في محبسه، لما هرب من ضيقه في سجنه الى الحرية بمعناها الأوسع، من خلال التأمل في ملكوت الله اللامتناهي، وآفاق كونه الفسيح، وهو قابع في سجنه، فكان من ثمرة ذاك كتابه هذا الذي آنسني في رحلتي هذه، وكأن روحه اللطيفة انسلخت من جسده، تاركة في ظلماته، سابحة في آفاق غير متناهية، صاعدة الى نفختها الإلهية، متخففة من مقتضيات المادة، ولوازم الجسد، ومتطلبات النوازع الأرضية، فهنا تحول لديه ضيق السجن الى سعة، وفائض الزمان فيه الى فرصة للتأمل، وقيده الى انطلاق للروح، وملله إلى تأمل عميق في آيات الله في الأنفس وفي الآفاق.
وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه ابن تيمية في محبسه أحسن تعبير وأعمقه “ماذا يفعل بي أعدائي، إن سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة” فهو هنا كما ترى جعل سجنه خلوة مع الله، وفرصة للاستزادة في العبادة والتواصل والمناجاة، وفي ذلك من الراحة والانشراح ما لا يدركه الا عباده المصطفون الأخيار. وهذه الحال من التحرر من عبودية الخلق، وما يملكونه من أدوات القهر والبطش والحرمان والسجن الى عبودية الخالق وما فيها من الراحة والتحرر المطلق هو المعنى الذي فصده العارف الكبير إبراهيم بن أدهم بقوله”لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف” ولكن أنّى لنفوس الجبابرة الغليظة الخشنة القاصرة أن تتذوق الفتوحات الربانية الشفافة، وتدرك معنى للحرية أوسع وأعمق من تصوراتهم الضيقة الدنيوية الجسدية ! فهم وإن كانوا طلقاء في الظاهر، فإنهم في بواطن أمرهم لفي سجن شهواتهم غارقون.
وكان أبو العلاء المعري رهين المحبسين، بل رهين المحابس الثلاثة محبس العمى، ومحبسه الاختياري في بيته، ومحبس نفسه في جسده، وهنا عدّ المعري جسده محبسا. وقد ذكر أبو العلاء محابسه تلك في قوله:
أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني .. فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ
لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي … وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيث
تجاوز أبو العلاء تلك المحابس الثلاثة بقوة نفسه، وصلابة عزيمته ،وأخذها على الجدّ والمثابرة. ولقد تمكن من تجاوز محبسه في فقد بصره بتوقد بصيرته، وتخلّص من محبسه في بيته بروحه الشفافة وخياله الخصب الذي أودعه في لزومياته، ورسالة غفرانه، وفكّك من نفسه أغلال الجسد بتحريرها من إكراهات الجسد، وانطلاقها إلى فضاءات أرحب، تصفو فيها النفس، وتسمو الروح، فتبدع ما شاء الله لها ان تبدع، وتخلق من المعاني العلوية ما فتح عليه الله من فيوضاته الرحمانية. وهذه مرتبة لا يؤتاها الا الأفذاذ من الرجال، من أمثال ابن تيمية، وعلي عزت، وأبو العلاء المعرّي، ومنديلا، الذين أعطاهم الله قدرة عجيبة على تحويل محنتهم إلى منحة، وهزيمتهم إلى نصر، وعجزهم الى قدرة، وقيدهم الى انطلاق، وسجنهم الى حرية، وذلك لما في نفوسهم الكبيرة من قوة متعالية، وصبر كصبر أولى العزم من الرسل.
ومما سجلته في محادثتي الليلية في الفضاء مع الشيخ الرئيس علي عزت قوله: “لكي يقرأ المرء كثيرا يجب عليه إما أن يكون غنيا جدا، أو فقيرا جدا كما يقول أحد السينمائيين المشهورين، وسأضيف.. أو في السجن كما هو الحال معي” وقلت: وأضيف أنا أو في الطائرة كما كان الحال معي في تلك الليلة. ولقد لفت انتباهي امرأة صومالية كانت تجلس في صفّ مقاعدي، بحيث كان مقعدي على النافذة، ويليه مقعد يجلس فيه رجل عربي، ثم يأتي معقد المرأة الصومالية، فلحظتها تنسلّ من مقعدها في غبش الليل، ثم تعود إليه خاشعة مبتهلة، وكنت أسمع تهليلاتها وتسبيحاتها وتكبيراتها، ثم رأيتها تصلّي صلاة قدّرت أنها صلاة الفجر، فقلت في نفسي: ربما تكون هذه المرأة من العوام، لا تحسن القراءة، ولا تدّعي الثقافة والفكر، ولكن صلتها بالله يملأ فراغها، وتعلّقها بعبادته يمنحها حرية تنجيها من كل ضيق في سجون الارض والسماء. وخلاصة الخلاصة: إن السجن لا ينال من نفسين: نفس حبب إليها القراءة، ونفس متعلقة بالله دائم الصلة به. فربّ سجّان في سجن نفسه وشهواته، وسجينه حرّ مطلق الحرية في زنزانته، فالمسجون من كان سجين النفس والفكر والروح، وإن كان طليقا في الأسواق يأكل ويشرب، والحر من كان حرّ النفس والفكر والروح، وإن كان منزويا في زنزانة ضيقة نائية.
الكاتب: عبدالواحد الشافعي