تم اغتيال الشاعر الصومالي الشهير «جامع كديي علمي» مساء الأربعاء من شهر آب الموافق ١٦ أغسطس 2023م، من قصف مدفعي استهدفت سيارته، نفذتها قوات حكومة أرض الصومال، حيث كان الشهيد آنذاك في مدينة « لاسعانود»، الواقعة في شمالي البلاد والتي تدور حولها معارك شرسة بين قوات حكومة أرض الصومال وشعب إقليمي«سول وسناغ». وتستمر تلك المعارك في شهرها الثامن وراح ضحيتها ما يزيد عن ألف وخمس مائة شخص؛ حيث استهدفت ودمرت قوات أرض الصومال على معظم مرافق الحيوية في مدينة « لاسعانود»، كالمستشفيات والمساجد ومحطات الكهرباء والمياه وغيرها، في حين ارتكبت تلك القوات جرائم ضد الإنسانية كما ذكرت في بيان أصدرتها «منظمة العفو الدولية» إزاء هذا الحرب.
ولد الشاعر «جامع كديي علمي» في بلدية «لاسعانود»، شمالي الصومال عام 1948م، حيث درس هناك في تعليمه الأساسي، وكان الشاعر «جامع كديي علمي»، شغوفا في تعلم اللغات، وخاصة لغتي العربية والصومالية. وظهرت أمارات الأدب ونظم الشعر عن الشاعر منذ نعومة أظافره إلى أن أصبح رمزا من رموزها، وعمودها الفقري. ويعد «جامع كديي علمي» من كبار الشعراء الصوماليين في العصر الحديث، حيث احتل الشهيد على المراكز الأولى في أوساط الأدباء؛ لكونه أحد أبرز الشعراء الصوماليين البارزين منذ سقوط الحكومة المركزية، وبعد اندلاع الحروب الأهلية في الصومال. واشتهر الشاعر لدعوته اللافتة تجاه الوحدة والمصالحة بين الصوماليين، وتكميم أصوات البنادق وإعادة الإعمار وإنقاذ ما تبقى من كيان الدولة الصومالية.
مرت حياة الأديب بمحطات رئيسية، ولقيت كلمته قبولا واسعا في كل المناطق الصومالية من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب الى الشمال. وكانت رسالته رسالة سامية تحمل هموم الوطن وقضاياه الكبرى.
عاش الأديب مجاهدا بلسانه، يصدح صوته في الآفاق ليلملم شمل الصوماليين الذين فرقتهم الأياد المغرضة. وكان الشاعر ركنا من أركان الأدب الذين أمدهم الله بموهبة فذة، بكمال القول، وجمال التعبير، وقوة الكلمة والبلاغة. كان يدير زمام الأمور في الأندية إذا تحدث. وإن سميت العرب طه حسين عميد الأدب العربي، فأنا أسمي «جامع كديي علمي» لقب عميد الأدب الصومالي وركنا من أركانه البارزة. وفضلا عن أسلوبه الأدبي، فقد اشتهر الشاعر الشهيد بجرأته وافتخاره اللامحدود بانتمائه ولغته وثقافته ودينه. وأثرى الشاعر تاريخ الأدب الصومالي بغزارة إنتاجه الثقافي والفكري والأدبي، حيث رسخ جذور القومية والوطنية في أذهان الصوماليين والجيل الصاعد مستخدما بصوته الرائع الملح بلحنه الفذ.
inkastoo sabaanadan
saranseer lasoo maray
amu soomalhaadiyo
jiray saxal Rabbaaniya
amay saar xanuuniyo
suruc inagu raageen
ummaduna sax iyo khalad
kala saari waayeen
ma saluugo midabkiyo
sinjiga iyo magacoo
Soomaali baan ahay
ummadaha la siman eey
ولو لاحظنا وتعمقنا في شعره وشخصيته، لوجدناه ثائرا بالوضع الصومالي المتشتت والمنقسم سياسيا واجتماعيا. وقد وقف الشاعر صامدا في وجه أطماع النظام الانفصالي (إدارة أرض الصومال) منذ تأسيسها، وعارض بشدة هذا التوجه الانفصالي، وحذر كثيرا بكلمته عن تقسيم البلاد، وبكل خطوة تهدد وحدة البلاد وانسجامه وأمنه ومصالحه العليا؛ إلى أن قضى نحبه شهيدا في عقر داره! بل إنه حمل السلاح مرارا في المعارك أمام أطماع الانفصاليين – خاصة أثناء هجومهم في مدينة «لاسعانود» عام 2004م، حيث أصيب بجروح آنذاك. ولم ييأس الشاعر بدعوة أهله على المقاومة ضد هذا النظام الانفصالي وتحرير ديارهم من هذا النظام الظالم ومن هم على شاكلته. وبعد سيطرة حكومة أرض الصومال على مدينة «لاسعانود»، حاضنة إقليم «سول»، عام 2007م هاجر الشاعر إلى مدينة «جروي»، عاصمة ولاية «بنت لاند»، ونادي من كل المنابر والمنصات معبرا رفضه القاطع للانفصال، والجرائم التي تمارسها إدارة أرض الصومال ضد شعب مناطق«سول وسناغ»، لتحقق أهدافها التوسعية. ومن قصائده الخالدة عن ذلك هذه الأبيات التالية:
Ma anigaa Dhulbahantoo camiran, duuba calankooda!
Col nimaanu nahay ma anigaa, calallada u mayra
Ma anaa caagad iyo laba manjood, siista calankayga
Ma anaa magaca caanka ah, abbaanimo ku caanyeeya
Cadaw aan ka waynahay maxay, geeyay cagahooda?
Nimankankaa caddaystoo baryahan , caga juglaynaya
Ma caruusad baan ahay markaan, culayo weelkooda!
ومن الناحية الشخصية، وُصِفَ الشاعر «جامع كديي علمي» بالشاعر المتدين، حيث جمع بين الأدب الصومالي الجميل، والتصوف الروحاني، واستخدام شعره بدعوة الناس إلى ربهم والاستعداد ليوم الآخرة وما فيها من أهوال وحساب. ومن أكثر أبياته شهرة تلك القصائد التي يدعو بها الناس إلى الخير وإلى ذكر الموت والاستعداد ليوم الرحيل، قائلا:
- Naf wali ba wakhti bay lee dihiyo, war iyo taariikhe
- Waayaha adduunkuna qalbiga, waa walhinayaaye
- Wadne la ma huraan buu noqdiyo, waxaan ku seegayne
- Warankii Israa’iil intaanu, waajibkii gudanin
- Ama uu waddada soo hayaan, wiishku nagu yeedhin
- Waysada ha daynina tan, waa layska wadayaaye.
وتزامن اغتيال الشاعر «جامع كديي علمي» رحمه الله بعد ثمانية أشهر من القصف العشوائي التي تستهدف قوات أرض الصومال في المناطق المأهولة بالسكان؛ مما أدى إلى إزهاق أرواح تزيد عن ألف شخص من المدنيين العزل، من بينهم شيوخ ومرضى وأطفال ونساء. كما تسبب هذا القصف إلى تهجير أكثر من مائتي ألف شخص عن منازلهم ولجوئهم إلى القري والأرياف والمناطق المجاورة في المدينة؛ حيث يعيشون تحت ظروف صعبة للغاية، إضافة الى استهدافهم المتكرر للأماكن المحظورة شرعيا عن الاستهداف: كالمستشفيات ومنازل المدنيين والطواقم الطبية، وهذا يشكل جريمة حرب في القانون الدولي الإنساني، وفق اتفاقية جنيف الأربع التي تحمي – على وجه التحديد – للأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية (المدنيون، وعمال الصحة، وعمال الإغاثة) والأشخاص الذين توقفوا عن المشاركة في الأعمال العدائية من الجرحى، والمرضى، وأسرى الحرب.
وتدعو الاتفاقيات وبروتوكولاتها إلى الإجراءات التي يتعين اتخاذها منعًا لحدوث كافة الانتهاكات ووضع حد لها، وتشمل قواعد صارمة للتصدي لما يُعرف بـ «الانتهاكات الخطيرة»، إذ يتعين البحث عن الأشخاص المسؤولين عن الانتهاكات الخطيرة وتقديمهم إلى العدالة. وانطلاقا من القانون الدولي ومبادئه الأساسية، ندعو للحكومة الصومالية والمجتمع الدولي، بتحقيق فوري وشفاف تجاه ما حدث في مدينة «لاسعانود» من جرائم ومحاسبة المتورطين والمجرمين لتلك الجرائم.
بعد رحلة أدبية حافلة بالإنجازات الثقافية واللغوية في كافة نواحي الحياة الأدبية، ودع الشاعر الكبير في عالمنا، وترك لنا قضية وطنية عادلة تستحق الصمود والموت من أجله. وأخيرا، نسأل له الرحمة والشهادة لروح الأديب «جامع كديي علمي»، راجين لله أن يتقبل شهادته، وأن يوفقنا سائرين على دربه.