مستسلما لأفكاري ومتاهة الليل وصلت إلى المطار. كان مزاجي مكتئبا وأنا أضع رجلي على سلّم الطائرة بسبب تداعى ذكريات الطائرة المصرية التي تحطمت فوق البحر الأبيض المتوسط عام 2016م. أقلعت طائرة بوينج 737-800التابعة لــ «مصر للطيران» ولساني يلهج بــــ {يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف} وحلّقت فوق «مدينة يجد فيها المرء أحلامه» بعتبير كارين بلكسين.
في المقاعد الأمامية جاورت مع ممثل مصري صوّر مشاهدا من مسلسله القادم في المحافظة الساحلية الكينية. كان شابا سعيداً بدوره كضابط شرطة يتحاشاه الجميع، ويعاني من رهاب الطائرة، وطيلة الساعات الأولى من الرحلة كنت أبدد مخاوفه بالحديث عن الأحداث العالمية، وعن كرّة القدم ومحمد صلاح، وعن الأفلام والكتب، ومفكرين مصريين صنعوا المجد الثقافي لبلده، ورغم أنه لم يكن متضلعا في الشأن الثقافي إلا أنه استأنس بالحديث معي، وحدثني بدوره عن الاعتبار الذي وجده في الفن ولم يجده في الحياة الحقيقية.
في وسط أجانب يتهامسون ومصريين يبدو على ملامحهم سعادة العودة إلى وطنهم كان صومالي في ميعة الصبا ويتحدث الإنجليزية مثل ريموند ردينغتون (جيمس سبيدر) في مسلسل «القائمة السوداء»، محاطاً بفتيات شقراوات يغنين ويضحكن باستمرار، بينما كنت وحيداً في ركن قصيّ من الطائرة أقرأ الثورة الساندينية ومذكرات الشاعرة النيكاراغوية جيوكوندا بيلي «بلدي تحت جلدي». ورغم الدور البطولي الذي كان يمثله (في نظره) إلا أنني شعرت بالشفقة تجاهه. كان ضحية من ضحايا الحرب الذي دمّر صومالية الصومالي، وشوه شخصيته واغتال قيمه وبنيته الاجتماعية، وهذا ما يريده الغرب الذي فتح أبوابه للصوماليين الهاربين من جحيم الصراعات العبثية؛ صناعة صومالي يتقن نحت أفكار الغرب، ولا يعرف من الإسلام إلا الشعارات.
وهنا لا ألوم الشعب الذي عاش وما زال يمارس حياة لا جودة لها بين مطرقة زعماء الحرب وسندان التطرف الذين لم يتركوا لهم أي خيار آخر. في الغرب ليس هذا الشاب الذي يرتدي ويتزين بأقراط الأذن مجرد مهاجر يعاني من أزمة الهوية وعدم قبول المجتمع فحسب، بل هو أسود مسلم وصومالي أيضاً، ومن الممكن أن الهزيمة النفسية ورحلة البحث عن الذات أبعدته عن تقاليده ولم تشفع له أمام أصحاب «تفوق العرق الأبيض». ولولا المرأة الصومالية المسنّة والمحجبة، والملامح التي لا تختفي لما عرفت بسبب مظهره وجسمه المغطى بالوشوم والرسوم والبعيد عن الذائقة الصومالية.
بعد رحلة استمرّت 5 ساعات إلا قليلاً حلّقت الطائرة فوق النّيل المهيب الذي شكّل هوية مصر ونهضتها عبر التاريخ، وأفردت جناحيها فوق مدينة متوهجة على كتف «النهر الخالد» وأفكاري تتحدث إليّ. هل كلمتنا ستعكس على حدّة الجفاف الذي تركناه وراءنا؟ هل مخرجات المؤتمر سيساهم في إنقاذ شعبي من الانزلاق نحو المجاعة؟ كان رأسي ملئ بالاجتماعات المرتقبة والمآلات الممكنة عندما لامست عجلة الطائرة على مطار القاهرة الدولي. استقبلتني صالة الوصول بآية من الذكر الحكيم: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقابلتها بذراعي مفردة على اتساعهما.
مزهواً بسلامة الوصول ومستغربا بشحوب المطار مقارنة بأقرانه من الدول العربية وحتى الأفريقية وقفت أمام شرطي الجوازات الذي الصق جوازي بشاشته الآلية، وبعد إمعان وقراءة متأنية للاسم والتعمق في تفاصيل الوجه طلب مني أن أنتظر وراء الحاجز الزجاجي ريثما يعود لأن اسمي مدرج على القائمة الحمراء! سألت باستغراب: “لماذا اسمي مدرج في القائمة الحمراء ولم أقترف جرما؟” فردّ عليّ: “مهلاً يا حسن! أما تعرف أن نصف المصريين يحملون اسم حسن، والسلطات القضائية تلاحق الكثير منهم، إضافة إلى أن بلدك يعاني من سطوة التطرف؟”
وقفت في ركن قصي من المبنى أنتظر قرار الشرطي الذي لم يعاملني كإرهابي محتمل، بل كبريء حتى تثبت إدانتي، وهذا لو تعلمون عظيم في مثل هذه المواقف. أمرني شرطي آخر بأن أتبع صديقه الذي يحمل على يده اليمنى جوازي واليسرى جهاز اللاسلكي، فذهبت أقتفي أثره حتى وصلنا إلى كابينة فيها ضابط رفيع المستوى -وفي منتصف العقد الخامس من عمره تقريبا- قابلني بوجه سعيد وابتسامة تعكس طيبته. قلّب الضابط صفحات الجواز وسأل صديقه دون أن ينظر إلى ملامحي: “هل هو صومالي؟” فأجاب بنعم. فقال له: “أعط جوازه.. مجرّد تشابه في الأسماء ليس إلّا.. أهلا بك يا حسن.. نوّرت مصر”. غادرتُ المبنى ولساني يردد: نوّر الله قلبك بالإيمان يا رئيس.