0كانت في صيف عام ١٩٩٧م، كنت مدرسا في مجمع طيبة التعليمي في بلدوين، عام دراسي انقضى وعام جديد على الأبواب، العطلة الصيفية في آخر أيامها، هذه الأيام كنت في مدينة بورعكر التي تتوسط مدينتي فيرفير و مستحيل في الإقليم الصومالي في إثيوبيا، مدينة الحديث عن تاريخها وحضارة أهلها يحتاج الى مقال مستقل.
من أجل الاستمتاع باللحظات الأخيرة من العطلة بأقصى ما يمكن قررت الخوض في مغامرة كانت تداعب أمنياتي من فترة وهي السفر مشيا بالأقدام عبر التجمعات الزراعية المطلة على ضفاف نهر شبيلي من بورعكر إلى ديفو، فبدأت من منطقة مرعد ومكثت فيها ليلة، وفي الصباح عبرت النهر بزورق خشبي ومصنوع يدويا الى منطقة قجاقور الواقعة على الضفة الغربية للنهر وواصلت المشي على الطريق الذي بدأ يبتعد رويدا رويدا عن خط النهر المتعرج ولازم السلسلة الجبلية لبعض الوقت قبل أن يستقل بنفسه، ومررت منطقة بار طوياع حتى وصلت قبيل الظهيرة الى مدينة ديفو وذهبت مباشرة الى المسجد الذي كان فارغا في هذه اللحظة لأن الصلاة لم يحن موعدها بعد ومعظم الأهالي مزارعون ورعاة، توضأت في المسجد ثم عبرت الجسر الى الضفة الشرقية للمدينة التي فيها السوق والمقاهي وفرزة السيارات.
وفور وصولي إلى مخرج الجسر صادفت مشهدا مرعبا لم يكن بالمرة في حسباني، هناك شجرة كبيرة في ضفة النهر وتحتها يجلس رجال مسلحون يقارب عددهم أربعين، كانوا يلعبون ال ( Jar ) وفجأة وبدون مقدمات التقت نظراتي بنظراتهم ليسوا من أهل المنطقة (در -فقي محمد) هم من عشيرة (حوادلي – يبردغي) عرفتهم من أول النظرة وبدورهم عرفوني، ومن بينهم شخصان أعرفهما بشكل شخصي، لكن بسبب الصدمة وعدم التوقع لم أجرأ على إلقاء التحية أو الحديث معهم، واصلت الخطوات نحو مقهي ليس ببعيد من مكان تجمعهم وطلبت كباية الشاي، الجو كله مكهرب والناس في المقهي وفي خارجه يتطلعون إليّ كشخص يعيش في آخر لحظاته في هذه الدنيا بعد أن قاده حظه السيء إلى حتفه..
ما هي قصة المسلحين؟ وما علاقتي بها؟
القصة هي أن المسلحين في نزاع حول مناطق زراعية مع عشيرة الحسنيين ( عشيرة المسكين كاتب هذه السطور) في منطقة أبالي التي لا تبعد عن ديفو سوى كيلومترين أو ثلاثة، وأنهم يتجمعون في ديفو من أحل شن هجوم مباغت على أهالي أبالي..!!
أما أنا فرؤيتي تنطلق بأن الموضوع نزاع أراض ومزارع ولم يصل بعد الى سفك الدماء -على الأقل من جانبنا- وأنا شخص مدني ومدرس، أعيش في بلدوين وأعمل في الحزء الشرقي من المدينة وأغلبية أهله من حوادلي لماذا أكون مكرما في بلدوين ومهددا في ديفو؟ إنها معادلة متناقضة هناك حلقة مفقودة في هذه المعادلة..
إلى جانب هذه الحقيقة فأنا وغيري من أبناء العشيرة كنا نفتقر الى الحس الأمني لأنها أول مرة أشعر فيها بتهديد بسبب انتمائي العشائري فكنا بمثابة الهلال الأحمر الذي لا حدود له، وكان أبناء العشائر الأخري يستخدمون اسم عشيرتنا للإفلات من المواقف الخطرة أثناء المواجهة مع عشائر أخرى بينهم ثأر وعداوات سابقة..
أم هانئ
في وسط هذه الموجات من الصراع النفسي ومن الخليط بين الخضوع للخوف ومعطيات الموقف وبين محاولة ارسال تطمينات ذاتية للنفس وتحليل الموقف استيقظت بصوت إمرأة تخاطبني بلهجة صارمة وتطالبني أن أقوم وأذهب معها، حاولت أن أعتذر لها وأقول أنه لا يوجد مشكلة سأذهب الى أبالي لأبيت مع أبناء العشيرة في هذه الليلة وفي الصباح سأستقل أول سيارة الى بلدوين، لكن قبل أن أقول لها ذلك خاطبتني غريزة الخوف قائلة من يضمن لك بأن تصل الى أبالي بسلام ؟!
ومن جهة أخرى لهجة المرأة تشير الى أنها من عشيرة المسلحين من يضمن بدورها أنها تسعى للخير وتريد سلامتي، بين هذه الخليط من المشاعر المتلاطمة قررت أن استسلم لها وأذهب معها إلى حيث اقتادتني …
موعدنا الجزء الثاني وليلة مع أم هانئ في بيتها..