مع نهاية 2017 غادرت اليمن متوجهاً إلى أرض الصومال للعمل ، قد يبدو القبول بالخروج إلى الصومال أشبه بمغامرة في ظل الصورة الذهنية السلبية التي عمل المخلوع على ترسيخها في أذهان الشعب والذي دائماً ما كان يخوفه بالصوملة.
لم أكن أفكر من قبل بالإغتراب والخروج من السعيدة أياً كان موطن الاغتراب لكني وجدت نفسي مسافراً أرض الصومال، ومع أفول شمس العشرين من ديسمبر 2017 وصلنا ميناء بربرة مع مجموعة كبيرة من اليمنيين الذين دفعتهم الأوضاع لترك بلادهم وجمعتنا وسيلة النقل البحرية ويتعدى عددنا 50 مغترباً.
كانت المفاجأة الأولى التي وجدتها في الميناء أثناء وصول الباخرة هو وصول طاقم الميناء الإداري والأمني يرافقه طاقم صحي قام بتحصين كل من على السفينة لا أدري لماذا ؟ لكني نظرت بإعجاب لمثل هكذا حرص على سلامة رعايا هذه الدولة من نقل الأمراض إليها من القادمين من أي بلد آخر . خلال اقل من ربع ساعة غادرنا الميناء بسلاسة وبدون تعقيد وتفرق الجميع كلٌ حيث وجهته التي يريدها.
كان الليل قد دخل أثناء انتقالي من مدينة بربرة إلى العاصمة هرجيسا والتي تبعد عنها 180كم تقريباً المفاجأة الأخرى التي أذهلتني ان عدد النقاط لا يتعدى عدد أصابع اليد في نقاط متواضعة لا يتجاوز عدد من فيها شخصين لا يحملون أي أسلحة وبدون مطبات والتي اكتفت هذه النقاط باشارات مرورية قبل النقاط وربط خيط كإشارةللسائق بالتوقف ، تذكرت حينها عدد النقاط التي مررت بها من إب حتى عدن والتي يتجاوز عددها عدد مقاعد البرلمان اليمني موزعة بين نقاط الانقلابيين ونقاط الحزام الإماراتي والتي يسبقها ويليها مطبات كبيرة وكثيرة حيث أصبحت هذه النقاط بمثابة كابوس يطارد المسافرين اليمنيين والتي غالباً ما تكون أشبه بثكنات عسكرية مليئة بالأسلحة والمسلحين ، ولعل من ينجو من نقاط الحوثيين ربما لا يستطيع المرور من نقاط حزام الخوف الإماراتي .
أخرجت جواز سفري أثناء السفر داخل الجمهورية اليمنية في كل نقطة في ظل تحقيق واستجواب وتوزيع صور مطبوعة من جواز السفر في غالبية النقاط وأثناء سفري داخل الصومال لم يُطلب مني ابدا إخراج جوازي لكنهم يتأكدوا عما اذا كنت يمني أم لا ويكتفوا بذلك لثقتهم في ان الأجهزة الرسمية قد أتمت إجراءاتها اللازمة لدخول الأجانب إلى بلدهم ولا داعي للتضييق على ضيوف بلدهم .
خلال مائة يوم في الصومال ومن خلال تعاملي مع من التقيت بهم فإنني لاحظت أنهم يكنون لليمنيين الكثير من الود والإحترام والتقدير ومقدرين وقفة الشعب اليمني مع الصومال واحتضان اليمن للإخوة الصوماليين الذين شردتهم الحرب ودفعتهم لمغادرة وطنهم أثناء الحرب الأهلية التي عصفت بالصومال اواخر القرن العشرين ، حيث يحظى المغترب اليمني بحفاوة خاصة من قبل جميع الصوماليين وأجهزة الدولة الرسمية مقارنة ببقية المغتربين من البلدان الأخرى الذين يحظون بتقدير واحترام منقطع النظير .
خلال مائة يوم قضيتها في أرض الصومال التقيت بالعديد من الأخوة الصوماليين الذين زاروا اليمن سواءاً للعلم او للعمل ، والذين يشعرون بحرقة وأسى على اليمن وهم يعددون مدنها واعلامها ومآثرها ومعالمها السياحية وكل جميل في السعيدة وجميعهم يتمنون للسعيدة ان تكفكف دموعها وتظل سعيدة كما كانت.
مائة يوم منذ وصلنا شمال الصومال التي قررت الانفصال على الجنوب في منتصف العام 1991م وذاك شأن داخلي لا يعنينا بإعتبارنا ضيوف في هذه الدولة ولا شأن لنا في ذلك لكن ما يعنينا هو ما لمسناه على أرض الواقع خلال المائة اليوم الأولى التي عشناها هنا في هذه الدولة.
قد تبدو البنية التحتية هنا ليست بالمستوى المطلوب لكن البنية الأساسية لبناء الدولة راسخة لدى أبناء الشعب الذين أصبحت لديهم قناعة تامة بضرورة بناء دولة مدنية تقوم على احترام الحقوق والحريات والتداول السلمي للسلطة . من يقرأ عن تجربة شمال الصومال (صوماليلاند) في التداول السلمي للسلطة خلال الفترة من 1991 – 2018 يجد أنه قد تناوب على الحكم حزبين حاكمين وخمسة رؤساء ، في الوقت الذي يناضل فيه اليمنيون إلى التخلص من رئيس جثم على رؤوسهم 33عاما بإعتباره رئيساً و7 أعوام باعتباره مخلوعاً وظل يتحكم بإمور الدولة الى ان تم تصفيته من قبل شركائه في الانقلاب على الشرعية ، لكن ما يفخر به اليمنيون ويجعلهم فريدون في تجربتهم الديمقراطية ان المخلوع حكمهم 33 عاماً لوحده وتعاقب على حكمهم خلال السبعة الأعوام الأخيرة بعد ثورة فبراير أكثر من سبعة رؤساء يقودون اليمن في الفترة نفسها اللهم لا شماتة .
خلال المائة اليوم الأولى وأثناء تنقلي بين الثلاث المدن الكبرى في أرض الصومال لم أر تواجد المظاهر المسلحة أبداً بل والله لم أر حتى 5 قطع سلاح طوال الفترة ، حيث أن السلاح هنامحدود في كميته ومحصور في حمله على الجهات الأمنية فقط ، كذلك لم اسمع طلقة رصاص أو أعيرة نارية خلال فترة تواجدي ، أما الأجهزة الأمنية فإنها تتواجد بسرعة غير عادية عند الإبلاغ عن حالات أو حوادث أمنية أو مرورية . تتمتع الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية بهيبة لدى مواطنيها ومقيميها ، ولا احد يفكر بخرق الأنظمة والقوانين النافذة.
يشهد شمال الصومال نهضة غير عادية في مختلف المجالات خاصة فيما يتعلق بالنهضة المعمارية والنشاط التجاري ، ويقود هذه النهضة المغتربين العائدين من دول الاغتراب الذين اجبرتهم ظروف الحرب على ترك وطنهم خلال فترة الحرب الداخلية التي عصفت بالصومال وأعادهم استقرار الوضع في وطنهم الغالي على قلوبهم . فالأسواق في مدن أرض الصومال تشهد حركة تجارية كبيرة حيث انها تظل مزدحمة طوال اليوم وإلى أوقات متأخرة من الليل الأمر الذي دفع اليمنيين إلى الإقبال على التجارة هنا وفتح المحلات والشركات والمطاعم الكبيرة ، في ظل توفر الخدمات الرئيسية التي تشمل الماء والكهرباء إضافة إلى خدمة الإنترنت التي تتميز بسرعة تفوق سرعتها في اليمن .
ولعل ما يثير الاستغراب هو ان الجامعات الحكومية والخاصة والمعاهد الأهلية تفتح أبوابها حتى العاشرة مساءاً في ظل إقبال غير عادي على الالتحاق بها ، كذلك فإن الصوماليون يقبلون على الالتحاق بمدارس تعليم وتحفيظ القرآن الكريم وتعلم اللغة العربية ، اما بيوت الله فإنك تغمرك السعادة حين تراها مملوءة بالمصلين في أوقات الصلوات المفروضة في ظل غياب مظاهر التسول داخل وخارج هذه المساجد العامرة بالمصلين الأمر الذي يدفع الى القهر والتحسر على الحالة التي وصل إليها اليمنيون ومظاهر التسول التي تعج بها بيوت الله في السعيدة .
يمشي الصوماليون بخطى ثابتة ومدروسة نحو بناء الدولة ويضعون أقدامهم على أعتاب مرحلة جديدة ، في حين يختار اليمنيون البداية من حيث بدأ الصوماليون في سبعينيات القرن الماضي ولا يكتفون بالاستفادة من التجارب المريرة التي عاشها الصومال وفي الوقت الذي قرر الصوماليون بناء دولتهم قرر اليمنيون الانزلاق نحو الفوضى والحرب الأهلية لا قدر الله وبسرعة جنونية إذن فإن دولة شمال الصومال تتجه نحو الطريق الصحيح وان كانت بخطوات بطيئة بسبب شحة الإمكانيات التي تمتلكها بلادهم ، الا انها قادرة على النهوض وبامكانياتها المحدودة كون الاستقرار والأمن يعم هذه الدولة وكذلك كون الحروب تأكل خيرات البلدان وإن كانت كبيرة وما يحدث في ليبيا والعراق خير نماذج .
ما يتبادر إلى الأذهان هو غياب الدعم الدولي للبلدان التي تريد النهوض في حين يغدق مثل هكذا دعم للبلدان التي تنزلق نحو الحروب والفوضى والصراعات في رسالة واضحة لتغذية الصراعات ودعم الأطراف المتصارعة وانهاك الأوطان.
مائة يوم مرت قد يبدو مرورها كلمح البصر لكن ما نؤكده هو أنها ثقيلة جداً على كل من يفارق تراب وطنه ، ولا يعرف الحب الا مفارق كيف لا وإن كانت محبوبته اليمن .
ولعل ما يزيدنا حرقة وأسى هو ان الوطن يغرق في بحر من الفوضى والدمار اوصلته اليه جماعة الموت القادمة من كهوف مران والتي أوجدت المبرر الكافي لإعداء اليمن للنيل منها وتصفية حساباتهم الإقليمية على أرض اليمن وبأيدٍ يمنية ودماءٍ يمنية . هنيئاً لشعب ارض الصومال ما تحقق من خطوات على الطريق الصحيح ومزيداً من التقدم نحو الأفضل . نتمنى من كل قلوبنا ان يحفظ الله أوطاننا الإسلامية ويلهمنا رشدنا ويصون دماء المسلمين .
حفظ الله اليمن وأهله ..ولا نامت أعين أعداء اليمن ..وسيبقى نبض قلبي يمنياً