في يوم صيفي قائظ أوائل حزيران/ يونيو عام 619 م الموافق شوال سنة عشرة من البعثة، وبعد عام شديد القسوة على الرسول صلى الله عليه وسلم (سمي في التاريخ عام الحزن)، قصد المصطفى الطائف القريبة من مكة للجوء إليها من عنف وبطش قريش، باحثاً عن مقر جديد لدعوته، محاولاً عرض الإسلام على أهلها وكسبهم إلى صفه. لكن شيوخ الطائف وكبارها تماهوا مع الماضي دون أن يعطوا للمستقبل اعتباراً، سدوا آذانهم عن الإصغاء إليه وعن فهم رسالته، فرفضوه ودينه الجديد وأصروا على دين الآباء والأجداد، بل وطردوه من مدينتهم وأهانوه حتى عاد أدراجه إلى مكة.
وبعد هذه الحادثة بسنة تقريباً التقى النبي صلى الله عليه وسلم صدفة بستة شباب من أهل يثرب -المدينة- يتقدمهم شاب في عقده الثالث من العمر (وهو الخزرجي النجاري أسعد بن زُرارة أبو أمامة) لنفس الهدف والغرض الذي زار الطائف لأجله، فأنصتوا إليه جيداً ورحبوا بما رفضه أهل الطائف وتلقفوا رسالته واعتنقوا الإسلام بتلهف وحملوه إلى قومهم. وعدوه بالنصرة والدفاع عن شخصه الكريم، متحدّين بذلك قريشاً والعرب جميعاً، فدفعوا الغالي والنفيس لتنفيذ وعدهم.
لاحقاً، استقبلوا النبي الكريم في مدينتهم فأصبحت بذلك أول عاصمة في الإسلام، وفيها أول مسجد بني في الإسلام وثاني أقدس حرم للمسلمين في العالم، حتى قال الله تعالى في حقهم (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) 23 الأحزاب. وبعد ذهابه – صلى الله عليه وسلم – ¬¬إلى الرفيق الأعلى حوت هذه المدينة الطيبة ضريحه المبارك وجسمه الطاهر، وبذلك كله أصبحت محج أفئدة الملايين من المسلمين من أنحاء العالم عبر القرون زيارة وعبادة وتعلماً وعملاً وسكناً.
وعليه، فتبوء المدينة المنورة لهذه المكانة السامقة الشامخة ليس وليد اليوم والصدفة وليس بسبب الذهب الأسود كما أنه ليس هبة من أحد، وإنما هي ثمار تلك اللحظة التي جلس فيها هؤلاء الشباب الستة اليثربيون بعد قطع مسافة 400 كم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذوا قراراً سيغير ماضي هذه المدينة وحاضرها ومستقبلها وكذلك أهلها. لماذا؟.
1. لأنهم أعاروا النبي صلى الله عليه وسلم سمعهم وأصغوا إليه، أعملوا عقولهم وفكرهم، فتحوا له قلوبهم، عندها رأوا أن الفرصة جاءتهم بطبق من ذهب وأنه من الغباء إضاعتها. بينما بخل شيوخ الطائف بعقولهم وقلوبهم عن الاستماع للرسول صلى الله عليه وسلم القادم إليهم من مكة بشخصه الكريم.
2. لأنهم بعقلهم اليقظ وبفطرتهم السليمة وضعوا جانباً دعايات قريش، وتوصلوا إلى أن هذه الرسالة ليست من عمل بشر كما تزعم قريش وتحاول تسويقها، وعليه فيجب الإيمان بها واتباعها . بينما غلبت دعاية قريش الخادعة على شيوخ الطائف وتأثروا بقولهم بأن محمداً شاعر ساحر وأن ما جاء به لا يعدو كونه أساطير الأولين.
3. هؤلاء الستة، لم يكن هدفهم البحث عن جاه ولا شهرة، كما لم يدافعوا عن سلطة ولا سلطنة، فقط كان همهم اعنتاق مبدأ ينهض بإنسانيتهم، يحفظ كرامتهم، ويضعهم في مصافي الأمم؛ ولاح لهم هذا المطلب فيما يقوله هذا النبي صلى الله عليه وسلم. بينما فضّل شيوخ الطائف المحافظة على مكانتهم الاجتماعية والوجاهة التي ورثوها عن أجدادهم.
4. تحويل الزمن والمسافة: عندما تصبح الساعة الواحدة أفضل من مائتين وأربعين ساعة، وتصبح 400 كم أقرب من 70 كم فهذه إمكانية لا يتمتع بها البشر جميعاً. فالنبي صلى الله جلس مع اليثربيين الستة القادمين من بعيد ساعة واحدة فأثمرت وأينعت وأنتجت كل ما ذكرنا للمدينة من فضائل، بينما عشرة أيام في الطائف القريبة كانت جدباء الأثر وعقيمة النتائج.
قدر الله لهذا النبي المطرود من الطائف والخارج منها تنهال عليه الحجارة، ثم رفض مكة دخوله إليها إلا بإجارة من أحد كبارها، قدر أن يُستقبل بيثرب بعد ثلاث سنوات استقبال الأبطال الفاتحين والرؤساء والملوك بفضل الله ثم بفضل هؤلاء الشباب الستة الذين غيروا مجرى التاريخ بالقرار الجرئ والسليم الذي جلب لهم ولمدينتهم كل هذه الفضائل والميزات عبر التاريخ. ولا عزاء لشيوخ الطائف الذين كانوا أقرب للفوز بهذه المكانة من أهل يثرب ولكنهم أهدروا الفرصة وكم من فرص أهدرت وتهدر عبر الزمن.
الختام:
هناك دروس وعبر جمة في شأن هذه المدينة ومن تلك الحوادث التي أهلتها لتلك المكانة، ولكنني سأكتفي بواحدة منها فقط وهي المبادرة إلى الخير والقبول به وعدم إضاعة الفرص. كما أشرنا فاللقاء بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين شباب يثرب تم بصدفة ودون تخطيط مسبق، وبدعوته صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الشباب للانضمام لدينه وهم اللذين لم يكن لهم به معرفة سابقة، ومع ذلك قبلوا الدين الجديد. ولم يكن في خلدهم ماذا سيجلب دخولهم إلى الإسلام لهم ولمدينتهم من المنافع الدينية والدنيوية العابرة للزمن. آمنوا لا يحدوهم إلا الاقتناع بالعقيدة ، يتطلعون لتغيير حالهم إلى الأفضل ولتطهير النفس والروح في الدنيا، واكتساب مرضاة الله وجنته في الآخرة. لكن الله فوق ذلك كله كافأهم ومدينتهم بما لم يكن في أذهانهم، كافأهم بكل هذه الفضائل والفوائد المعنوية : من السمعة الطيبة والشهرة الطيارة والمحبة في قلوب المسلمين والتي أشرنا إلى بعض منها في السطور أعلاه، والمادية: من المال والاقتصاد وغيرها. بينما ظلت الطائف مصيفاً لأهل مكة فقط، مرمية ونائمة خلف جبالها، لا يعرفها إلا قلة، ولا يتم ذكرها إلا نادراً، ولا يزورها إلا عشر العشر مما يزور المدينة سنوياً.
وعليه، فقبولك للخير دينياً ودنيوياً، والمبادرة إليه لا يعني أنه يخصك فقط أو ينحصر بك نفعه، كما أنه لا ينحصر في يومك وغدك، وإنما ستزرعه لأولادك وأحفادك ومن بعدهم من الأجيال بل ولقومك وأمتك، بل وسيستفيد منه الحجر والشجر. كما علمنا أن فعل الخير الديني لن يبقى أثره دينياً مع مرور الوقت وكذلك عكسها، وإنما سيشمل نواحي الحياة جميعاً. وبالتالي فما يزرعه الأجداد والآباء كأفراد وكشعوب وكدول يحصده الأبناء والأحفاد كذلك، وعلى حسب نوعه، إن كان جميلاً أو قبيحاً.