في الجمعة ما قبل الماضية هبت رياح عاصفة في لندن، فزعزعت كل شيء وحركته من مكانه، فلا تكاد عينك تقع على شيء من الجماد والنبات والانسان الا وهو يرقص رغما عنه. ومن أحسن ما رأيته من ذلك، رقصات شعر فتاة فاتنة، كانت تخطر أمامي، تعبث الرياح بشعرها، فترفعه طورا الى علُ، واحيانا على الظهر، وتارة على الوجه والصدر، وطورا تطيّره في الهواء، فيطير معها قلبي. أعجبني هذا المنظر، فذكرت شاعرنا هدراوي ومعشوقته Beerlula، ووصفه شعرها في أغنيته الشهيرة بلدوين:
Dhanka bari magaalada
Sow boqorad joogtoo
Biyo dahab la moodoo
Bilicdii haweenkiyo
Bili loo dhameeyoo
Timo boqonta joogoo
Baal gorey la moodoo
Baarkana casaankii
Bidix midig is gaadhoo
Bul-cad lagu xiddeeyoo
Badh ku xeexanaysoo
Barkanaysa qaaroo
Huwanaysa baaloo
Igu beertay lahashoon
U buseelay maan baran
في شرق المدينة
هنالك ملكة
تخالها ماء الذهب
قد أكمل لها
جمال النساء
ولها شعر أثيث
كأنه ريش النعام
ملمع أعلاه
متصل غدائره
مصبوغ بالدهن
تنام على بعض
وتتوسّد على بعض
وتلتحف بطرف
اثار ذاك فيّ الوجد
والشوق، عرفتها
الاديب الشاعر الفيلسوف هدراوي نفـَسَه طويل هنا، ألا ترى كيف انه لما قال (في شرق المدينة ملكة) لم يقل عرفتها مباشرة، وانما شرع في وصف هذه الملكة، ثم قال عرفتها بعد ثلاثة عشر شطرا، والقارئ المستعجل او المستمع غير المتأني ربما لا ينتبه الى ذلك.
وذكرت ايضا وصف امرى القيس شعر حبيبته في معلقته حين قال:
وفرغ يزين المتن أسود فاحم … أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلا … تضل العقاص في مثنى ومرسل
فكلا الشاعرين الكبيرين امرىء القيس وهدراوي أرادا ان يذكرا كثافة شعر حبيبتيهما، ويبدو ان وصف أديبنا هدراوي أجمل وأعمق، لان الملك الضليل ليدلّ على كثرة شعر حبيبته اكتفى بالاشارة الى انه يغطي متنها وتضل العقاس بين شعرها مرسل والمثنّى. اما صاحبنا هدراوي فانه قد بالغ في ذلك حتى جعل حبيبته تنام على نصف شعرها وتتوسد على نصف ثم تلتحف بطرف آخر منه، وهذه مبالغة مقبولة جميلة في مقامها، واحسن وقعا وأكمل في تأدية الصورة الفنية للمعنى.
اعود الى الحسناء الأسبانية، فلما دنوت منها واردت جوازها، فاذا بالرياح تميل شعرها نحوي، ضاربة به وجهي وأنفى، فنظرت اليّ معتذرة: انا آسفة، فقلت لها: لا بأس، انما هي الرياح، وأنا اخفى عنها النشوة العجيبة التى شعرتها، فما أحسن هذا الضرب وأجمله ! ولو كان كل ضرب مثل ضربها لعرضنا انفسنا كل يوم لهذا الضرب! ولكن أنى لنا هذا، والناس يضربون بعضهم بعضا بالعصي والهراوات والرصاص والصواريخ، ألا ليت كل يوم تهبّ علينا رياح عاصفة فتضرب شعور الغانيات وجوهنا وأنوفنا ! ويا حبذا تلك الضربة!
ثم توكلت على الله فتشجعت وقلت لها: ما اسمك سيدتي فقد فتنني وسمك، ومن أي بلد مصبّك؟ فقالت: انا Surayya من اسبانيا، من اندلسيا، فقلت لها: انت ثريا، وليس سريا، فهذا من بعض ما خلّفه لك اجدادك العرب، فهل تعرفين معنى اسمك سيدتي؟ فقالت: لا، قلت لها؛ انها مجموعة من الكواكب المنيرة في كبد السماء، وأجدادك العرب كانوا يحبون الثريا ويتغنون بها لدلالات متعددة، فهم يسمون بناتهم بالثريا، تشبيها لها برفعة النجوم ونورها، ومن اشهرهن الثريا الحجازية صاحبة عمر بن ابي ربيعة، وفيها يقول حين صارت مغضبة له:
من رسولي إلى الثريا بأني .. ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
أبرزوهامثل المهاة تهادى .. بين خمس كواعب أتراب
ثم قالوا تحبها قلت بهراً ..عدد النجم والحصى والتراب
وأحيانا يهتدون بها في زيارة الحبيب، وهذا امرؤ القيس يتسلل الى خباء حبيبته حينما تعرضت الثريا في وسط السماء ويقول:
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا … علي حراصا لو يشرون مقتلي
إذَا مَا الثُّرَيَّا فِي السَّمَاءِ تَعَرَّضَتْ … تَعَرُّضَ أثْنَاءِ الوِشَاحِ الْمُفَصَّلِ
تلك الثريا الحجازية وهذه الثريا الاسبانية، وقلت في نفسي: أليس من العجب ان يبقى اثر العرب في اسماء حسناوات بلاد الاندلس بعد كل هذه القرون؟ وهذا دليل على ان للحضارات الكبرى تأثيرًا لا ينمحي، مهما حاول الذين حلّوا مكانهم ان يطمسوا كل أثر يدل على الحضارة العربية الاسلامية التى اشرقت في سماء هذه البلاد قرونا.
ثم قلت لثريا: انني كلما ارى فتاة أسبانية (اندلسية) تذكرت ولادة بنت المستكفي.
-ومن هي ولادة هذه؟
– اميرة شاعر أديبة، جمعت بين الجمالين، الجمال الظاهر في خلقها وسحرها ودلالها، والجمال الباطن في أدبها وعقلها وشعرها. ومن لي بهذين الجمالين! انها كانت كروضة غناء فيها جمال للعين تسرح ناظرها في هذا السحر العجيب، وفيها جمال للعقل يرتع في آدابها وشعرها، الم تسمعي ما قال ابن زيدون فيها:
يا روضة طالما أجنت لواحظنا .. وردا جلاه الصبا غضا ونسرينا.
يا لها من روضة.