بعيداً عن الترزُّق بالكتابة، والتزلُّف بها إلى الرؤساء بالثناء عليهم بما ليس فيهم من أجل نيل حظٍّ من حظوظ الدنيا أجدني اليوم مضطراً إلى الإدلاء بهذا الشهادة لأُسَطِّرَ بها على صفحة التاريخ تخليداً لمفاخر هذا الرجل مع المسلمين المضطهدين، وقد حُورب بسببه في الشرق والغرب، ولن أتحدث عن تركيا الحديثة، وما تشهده اليوم من تطور وتقدُّمٍ قلَّ نظيرُه حتى في أوربا، وقد شهد لها بذلك القاصي قبل الداني، ومكانةُ تركيا من بين دول العالم خيرُ برهان، ونحن لا ندعي في أرودغان أنه خليفة المسلمين، بل هو وأحد من الرؤساء في هذا العصر، ولكننا في هذا المقال نُشيده بمواقفه الشجاعة في كثير من قضايا الأمة في وقت تعم الفوضى والاضطرابات والتخبط السياسي في كثير من الدول الإسلامية.
ولن أتحدث هنا عن كلِّ مواقفه، بل أقتصر على موقفه في سوريا باعتباره أعظم موقف له في تاريخ رئاسته خارج تركيا، وقبل الشروع في الموضوع نُعرِّج على سوريا ودورها التاريخي والمراحل التي مرت بها قبل الثورة السورية في الربيع العربي.
سوريا ودورها التاريخي
إن سوريا خاصة والشام عموماًٍ كانت تُشكِّل عبر التاريخ مركزاً للقيادة قبل الإسلام وبعده إذ كانت عاصمة للحضارة الرومانية البيزنطية قُروناً عديدة حتى قبل الميلاد، ثم صارت بعد دخولها في الإسلام عاصمةً للأُمويين منذ زمن معاوية بن أبي سفيان t إلى سقوط آخر خلافتهم.
ثم تحولت العاصمة الإسلامية منها إلى بغداد طيلة الخلافة العباسية، إلا أن سوريا حافظت على أهميتها كمركز قوي للنفوذ إلى سقوط الخلافة العثمانية في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، وخلافتهم هي آخر خلافة إسلامية في العالم، ثم تعاقب على الشام بعد سقوط الخلافة العثمانية الاحتلالُ الألماني، والإنجليزي، ثم الفرنسي.
سوريا بعد الاستقلال
وحين تحررت البلادُ من الاحتلال الغربي عام (1946م) حاولت سوريا أن تستعيد دورها الريادي مِن بين أمم الأرض إلا أنها أُصِيبت بتخبط في هرم السلطة، فظن الناس يومها أن ذلك التخبط يعود إلى تغييب دور الشعب في إدارة شؤون بلاده منذ مدة طويلة بسبب ذلك الاحتلال الغاشم الغربي، وأنه سحابة سيف ستنقشع عما قريب غير أن ذلك الظن لم يكن في محله، بل ازداد سوءا، فصار من المألوف أن يستيقظ الناس على رئيس جديد غير مَن نامُوا عليه بالأمس لكثرة الانقلابات، فضاعت بسببها بَوصَلةُ البلاد بين جنرالات الجيش السوري الذين لم يكن لهم هم غير أنفسهم.
سوريا في عهد العلويين
مما لم يكن بالحسبان ما حصل في تلك الليلة المشئومة من عام (1971م) من انقلاب حافظ الأسد على الدولة، ولم يكن أحدٌ يشك في حِينه أنه سيذهب كما ذهب غيره من الجنرالات، لأنه كان أضعف ممن كان قبله، ولم يكن له رصيد شعبي في البلد لأنه كان ينتمي إلى طائفة قليلة من العلووين، وخلافاً لكل التوقعات جثَم الرجلُ على صدور الشعب السوري ثلاثين عاماً بمساندة جهات إقليمية ودولية لا تريد للشعب السوري خيراً، فانسدت جميع الأبواب أمام الشعب السوري لإطاحة هذا الرجل مع محاولات عديدة قام بها الشعب، دفع فيها الثمن غالياً فقد دُمِّرت مُدن بأكملها، وسُوِّيت بالأرض كمدينة حماة، فلم يكن أمام الشعب خيار آخر غير انتظار موت الرجل كحل وحيد في رحيله، وحينما جاءت الساعة المنتظرة، وحلَّ بالرجل الموتُ المحتَّم تنفس الناسُ الصعداء، وأن فجراً جديداً لاح في الأفق، ولكن ذلك الفرح لم يدم طويلاً، بل تبخَّر في الهواء بشروع أعوان الرئيس الهالك في ترتيب البيت من الداخل لصالح ابنه بشار الأسد وراثةً غير معلنة، فتسلم الابنُ بمقاليد الأمور دون اعتراض من أحد، وعندها أُصِيب الشعبُ بأكمله بإحباط، فأخلدوا من جديد للقدر المحتوم، فأذعنوا للابن كإذعانهم لأبيه من باب (مكره أخاك لا بطل) مُعزِّين أنفسهم أن الظلم لن يدوم، وإن استعظم أمره في بعض الفترات، ولم يمنعهم ذلك أن يعلقوا آمالهم على الابن الذي حلَّ محل أبيه، فيكون أرحم بالشعب من أبيه لصغر سنه بتغيير نَمط الحياة وطريقة الحكم، ولكن خاب أملُهم فيه أيضاً، فصار الابنُ ألعنَ من أبيه، فقد كان أبوه يحكم البلاد بقبضة من حديد، ولكن الابن صار يحكمها بالنار، وبالحديد معاً.
سوريا والربيع العربي
وبعد سنوات من الإحباط واليأس لاحَ في الأفق أملٌ جديدٌ للأمة العربية عموماً لم يكن يتوقع أحدٌ حدوثه، يتمثل فيما عُرف لاحقاً بالربيع العربي الذي انطلق في الوطن العربي عام (2011 م) فقامت الشعوب على حُكامها، وسرعان ما تهاوتِ الأنظمةُ العربية الاستبداديةُ واحدةً تلو الأخرى في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وقد تأخر الشعبُ السوري عن الثورات العربية لبعض الوقت ليراقب الوضع عن كثب لأن النظام القائم في سوريا لم يكن كبقية الأنظمة في المنطقة، فكان يتسم بالوحشية والقمع لكنه (أي الشعب) في الأخير حسمَ أمرَه، وقرَّر أن يخوض التجربة بمفرده، ويُجرِّب حظَّه في نيل حريته كما جرَّبتِ الشعوب الأخرى في المنطقة.
فبدأ الشعبُ السوري بتظاهرات سلمية في تجمعات جماهيرية في الساحات العامة دون إحداث أيِّ ضررٍ للمؤسسات العامة والخاصة، فأراد الشعبُ من خلال تلك التظاهرات أن يرسل رسالة إلى النظام القائم، مفادُها أنه مطلوب منه أن يتغير قبل أن يُغيَّر من قبل الشعب، ولكن النظام لم يُصغِ إلى تلك الرسائل بل أصرَّ على مواجهة تلك التظاهرات بالقمع والتنكيل، فبعد أيام قلائل تحوَّل الشعبُ ما بين مقتول، ومسجون، ومطرود من داره، فلم يكن أمام الشعب خيار آخر غير المواجهة لأن خط الرجعة إلى الوراء مقطوع عليه، وفرصة التعايش مع النظام صارت معدومة إلى الأبد.
وبعد مواجهات وجولات ضاقت بالنظام الأرضُ بما رُحبت، وخرجت معظم الأقاليم من قبضته بل ومناطق كثيرة من العاصمة، وانحصر نفوذُه في عدة كيلومترات من محيط القصر الرئاسي، وكان ذلك مؤشِّراً قوياً أنه سيسقط في غضون شهور كما سقط نظراؤه من قادة العرب، إلا أن ذلك الانتصار السريع قد أزعج أمريكا وحلفاءها إذ كيف لأمريكا أن تسمح بقيام دولة سُنِّية في سوريا، وهي التي بذلت كل إمكاناتها لاستئصال السُنَّة من العراق ليتمَّ تسليمها لللشيعة على طبق من ذهب لا حقاً، وكان ذلك هو الهدف غير مُعلن من دخول أمريكا إلى العراق، وبعد تحقق ذلك الهدف صرَّح به المندوب السامي الأمريكي حاكم العراق أيام الاحتلال (بول بريمر) بعد ذهابه.
إنقاذ النظام السوري من السقوط
ولمنع النظام السوري من السُّقوط حصل توافق بين أطراف ثلاثة: أمريكا وكل من يدور في فلكلها من العملاء في المنطقة من جهة، وروسيا بعتادها العسكري الضخم من جهة ثانية، وإيران ومعها كل المليشيات الشيعية في المنطقة من جهة ثالثة، فتلك القوى الثلاثة تحالفت من أجل إفشال الثورة السورية أولاً، ثم إخراج السُنَّة التي تُشَكِّل الأغلبية الساحقة في البلاد من الساحة السورية لقصد تمكين الأقلية الشيعية في سوريا بأكملها كما حصل ذلك في العراق.
ولتحقيق ذلك الهدف تمَّ تقاسمُ الأدوار بين تلك الأطراف الثلاثة لتنفيذ تلك الخُطة بإحكام على النحو التالي، فعلى أمريكا وقفُ دعمها المالي والعسكري للجبهات السُنِّية المقاتلة، ثُم منعُ الدول السنية في المنطقة من مساعدة إخوانهم في سوريا ولو إعلاميا، وعلى إيران القيامُ بالدور العسكري في الأرض باستقدام كل مليشياتها المرتبطة بها من إيران، والعراق، ولبنان، واليمن للقتال في صفوف جيش النظام السوري المنهار جنباً إلى جنب، وعلى روسيا أن تُوفِّر الغطاء الجوي للمليشيات الشيعية في الأرض بالقصف المكثف، ورميِ البراميل المتفجرة على رؤوس الساكنين دون تمييز بين المقاتلين، وبقية الشعب لتنفيذ سياسة الأرض المحروقة.
وفي غضون شهور قليلة انقلب كلُّ شيء في سوريا رأساً على عقب، فاستعاد النظام السوري سيطرتَه على معظم المناطق، فتحوَّل الشعب السوري الذي كان يطمع بالأمس القريب في الوصول إلى السلطة إلى شعب يبحث عن الملاذ الآمن في الدول المجاورة إلا أنه وجَد الأبواب أمامه موصدة لأن إيواءه في البلدان المجاورة يتعارض مع السياسة الهادفة لقتل أكبر عدد من السنة لجعلهم أقلية بالقتل والتجويع، أو تهجيرهم من البلاد بلا عودة.
وبذلك اقترب المشروع الأمريكي في المنطقة من تحقيق أهدافه الذي يتمثل في دمج النشاط الإيراني بالنفوذ الإسرائيلي تحت الإشراف الأمريكي، فيرتاح العالم بأسره من الإرهاب السنُّي فيما زعموا، ولا تغتر أيها القارئ بما يحدث في العلن من التراشق بالتهديدات المتبادلة، وضرب بعض الأهداف الإيرانية في سوريا من قبل إسرائيل، وكذلك اغتيال بعض الضباط الإيرانيين من قبل أمريكا تلك هي مسرحية هزيلة يراد بها تخدير الشعوب لقصد صرف النظر عن الطبخة تحت الكواليس بين إيران وأمريكا.
دعم أمريكا لقوات سوريا الديمقراطية
فأمريكا في الوقت الذي سحبت الدعم عن الفصائل السنية المعارضة لم تخرج من الساحة السورية كلية لأنها لا تريد أن يعود النظام السوري بِقُوَّته كما كان قبل الثورة كما لا تريد أن تنفرد إيران بالقرار في سوريا لأن ذلك يُشكِّلُ خطراً على إسرائيل، فقرَّرت أمريكا أن تدعم قوات سوريا الديمقراطية المعروفة بـ( قسد) وهذه القوة خليط من حزب العمال الكردستاني العراقي، ومجموعات كردية سورية كانت مهمشة، ومعظمهم من البدو، ولم يكن لديهم جنسية سورية، وكانوا يُعرفون بـ (فئة دون) ولكن لما قامت الثورة في سوريا منحهم النظام السوري الجنسية لتهدئة ثورتهم بذلك.
هدف أمريكا من دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)
إن أمريكا تسعى في دعمها لقوات سوريا الديمقراطية أن تحقق ثلاثة أهداف كبرى في آن واحد، الهدف الأول: تمزيق سوريا لأن قوات سوريا هي وحدها مِن بين الفصائل المعارضة للنظام مَن تسعى للانفصال عن بقية سوريا، والهدف الثاني أن تبسط أمريكا على معظم آبار النفط في سوريا من خلال قوات سوريا لتحرم إيران والمليشيات المرتبطة بها من الاستفادة منها، والهدف الثالث: إشغال تركيا بحدودها الجنوبية التي تمتد أكثر من تسعمائة كيلو مع سوريا.
دور أردوغان رئيس تركيا في سوريا
في هذا الوضع المتأزم كان لا بد لأردوغان مِن فِعل شيء لصالح هذا الشعب المنكوب الذي تقطعت به السبل، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فقد طفح الكيل بدماء السوريين، ولو استمر الوضع على ما كان عليه لانتهى الشعب السوري من الوجود في سنوات قلائل، فقرَّر أردوغان أن يتدخل في سوريا لإيقاف النزيف، ثم إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الشعب قبل فوات الأوان، فكان لا بد له من العمل في أكثر من جبهة، فأول خطوة اتخذها أردوغان أنه فتح الباب على مصراعيه للعالقين السوريين على حدود بلاده، فدخلت فوراً أفواجٌ من السوريين إلى الأراضي التركية بما يزيد على ثلاثة ملايين، وقد بنت لهم الحكومة التركية من الخيام في المناطق الحدودية ما يسع الجميع، ووفرت لهم كل متطلبات الحياة، ثم سمح أردوغان لمن كان قادراً على العمل بمزاولة حِرَفهم التي يجيدونها بكل حرية في تركيا، ثم منح الجنسية التركية بما يزيد على مائتي ألف، نصفُهم من الأطفال.
ثم خطا خطوة ثانية، فأصدر أمراً بدخول الجيش التركي إلى الأراضي السورية، فسيطر على مناطق واسعة من الحدود لحماية المدنيين من بطش النظام، ثم سمح للجمعيات الخيرية التركية العمل في تلك المناطق الآمنة لتوفير سُبل العيش حتى لا يضطروا للهجرة منها، ثم واصل الجيش التركي زحفه إلى عمق سوريا لدعم ما تبقى من المعارضة السنية في محافظة إدلب التي هي من أهم المحافظات السورية لموقعها الاستراتيجي.
والآن تعتزم تركيا على توسيع المنطقة الآمنة في حدودها مع سوريا مما يسمح بعودة قرابة مليون سوري إلى بلادهم، ثم إن تلك المناطق مع كونها توفر للسوريين حياة أفضل من البقاء في الملاجئ في لبنان، والأردن تُشكِّل في المستقبل رقماً صعباً في أي تسوية سياسية.
ولم تسمح الدول العربية المحيطة بسوريا إحاطة السوار بالمعصم أن يدخل أحدٌ من سوريا إلى أراضيها إلا تسللا، ومن دخل منه انتهى مصيره فيها إلى التسوُّل، إذلم يجد الشعب السوري فيها شيئاً يُبقيه على قيد الحياة، فتعاطى التسوُّلَ حرفةً، والذي زاد من شقائه أن الكل يتفرج عليه، ولا يحرك ساكناً مع أنه تجمع بهم عقيدة الإسلام، فتساءلت نفسي أين الخلل؟ وحتى الآن لم يجد لذلك السؤال جواباً.
وهذا الموقف البطولي لأردوغان في سوريا خلق لتركيا أعداء كثيرين في الخارج، بل وفي الداخل من الأحزاب المعارضة بدلاً من الشكر على أردوغان على قيامه بذلك الدور للشعب السوري الذي عجزت عنه الدول العربية مجتمعة التي كانت تزعم فيما مضى أنها الدول الشقيقة لسوريا، فكان جزاءُ تركيا على ذلك مقاطعة شاملة من معظم الدول العربية سياسياً، واقتصادياً لإفشال المشروع التركي في سوريا، وللحد من نفوذها المتنامي في العالم، وذنبُ أردوغان الوحيد في هذا أن الله أنقذ به الشعب السوري من الإعدام المحكوم عليه، لا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً، وما فعله أردوغان في سوريا يعتبر في نظر تلك الدول تمرداً على إرادة المجتمع الدولي وجريمةً لا تغتفر.
وبعد سنوات من مقاطعة الدول العربية لتركيا لإرضاء أمريكا رأت أن ذلك لم يُجْدِها نفعاً في إركاع تركيا، وصار ضرر المقاطعة عليها أكثر لأن تركيا أقوى من الدول العربية المقاطعة مجتمعة، وتبين لهم أن حاجة تلك الدول إلي تركيا أكثر من حاجة تركيا إليها، فحملهم ذلك على مراجعة موقفهم من تركيا، فقرروا في نهاية المطاف أن يرجعوا فرادى من جديد إلى أحضان تركيا مهرولين دون تنسيق فيما بينهم، أخذاً بالمبدأ النفعي الذي يقول: (اليد التي لا تستطيع قطعها قم بتقبيلها).وكأن تلك الدول لم تفعل شيئاً في حق تركيا.
ومن المُفارقات العجيبة أن تلك الدول التي كانت تعادي تركيا بالأمس القريب تحتمي بها اليوم من خطر إيران لأن أمريكا خذلتهم، ولم تفعل لها شيئاً في دفع الخطر الإيراني المهدد للمنطقة بأسرها كما خذلتهم أمريكا سابقاً بحرمان الدول العربية من أن يكون لها أيُّ دور في سوريا، مع أنها كانت في البداية الممول الأول للثورة السورية، فلا هي نَعِمَت بالأمن والأمان بسبب ولائها المطلق لأمريكا، ولا هي احتفظت بثروتها من التبذير في المشاريع الأمريكية العقيمة في المنطقة (ومن يهن الله فما له من مكرم).